الحق الفلسطيني وصراع السرديات

30 مارس 2024
30 مارس 2024

لماذا لا ينتفض العالم في مواجهة المجازر التي تُرتكب بحق أهل غزة؟ أين هي ثمار المظاهرات التي نراها تجوب شوارع أكبر عواصم الغرب ضد الإجرام الصهيوني؟ وكيف لا يزال هنالك مؤيدون للصهاينة ومدافعون عن أفعالهم وإبادتهم للمدنيين العزل؟ الجواب على هذه الأسئلة باختصار هو أننا لم نكسب بعد «الحرب الإعلامية» بشكل كامل، فمنذ أن تخلّص قطاع غزة من الاحتلال في عام ٢٠٠٥ وقام فيه حكم ذاتي آنذاك والعدوان على غزة لم ينقطع وكان يتكرر كل بضع سنين فليست هذه هي المرة الأولى، ولكن ما يميز هذه المرة هو ظاهرة «كسر احتكار منابر الإعلام» وتحديدا الإعلام الغربي الذي لم يكن مسموحا له سابقا أن يبث سوى سردية واحدة عن الحرب في كل مرة ألا وهي سردية ممثلي الاحتلال، ولأن منصة إكس سمحت هذه المرة بتداول السردية الأخرى -الحقيقية- والتي يرويها ضحايا العدوان الأخير فقد تغيرت المعادلة وأضحى الجمهور الأوروبي والأمريكي بل والعالمي كذلك على اطلاع ودراية تامة بجرائم الحرب التي يقوم بها الكيان الغاصب، ولا تخفى الأهمية البالغة التي تكمن في إيصال صوت المدنيين الأبرياء ومناصريهم إلى منصات الرأي العام بأوروبا وأمريكا خصوصا؛ لما لهذه المنصات من تأثير في سياسات دولها الداعمة للكيان المحتل المجرم، لأجل ذلك فإن الحق الفلسطيني لن ينتصر ويعلو صوته ما لم نكسب صراع السرديتين المتضادتين: سردية الضحية في مقابل سردية المجرم ومزاعمه.

وإذا عدنا إلى الأسئلة التي افتتحنا بها صدر هذه المقالة فسندرك أن وجود مناصرين للإجرام الصهيوني ما هو إلا مؤشر على نجاح لا يزال مستمرا في تسويقهم لسرديتهم المضللة للرأي العام العالمي، كما أنه مؤشر على أن السردية الحقيقية لما يجري في أرض الواقع من عدوان على الأبرياء ما زالت بحاجة إلى مزيد من إثبات الحضور، وهي مهمة لا يكفي لتحقيقها ما نراه من تنامٍ للمحتوى العربي المناصر لفلسطين ولغزة بل يجب أن يساوق ذلك وصول للمتلقي الأجنبي عن طريق ترجمة هذا المحتوى ثم تسويقه عالميا ليدحر السردية الزائفة للعدو الهمجي.

مؤخرا شهدت الساحة المحلية في عُمان تداول قصة الطبيب العماني الذي ذهب للتطوع في غزة وعاد ليصف ما رآه وسمعه وعايشه هناك، ورغم الزخم الذي حظيت به القصة على المستوى المحلي فإنه لم يتم استثمارها لتسويق نتائج تلكم التجربة إلى ما وراء البحار وهذا أحد الأمثلة التي تشهد على تقصيرنا كشعوب وكأفراد وعدم نجاحنا في تبيان تهافت الرواية الصهيونية بآلتها الإعلامية الضخمة التي ما فتئت تنشر الأكاذيب وتزيّف الوقائع بل وتلقي باللائمة على الضحية لتلوي عنق الحقيقة الماثلة في مئات مقاطع الفيديو للوحشية الصهيونية النازية، وليس ببعيد عنا مقابلة بيرس مورجان مع باسم يوسف التي انتشرت عالميا وحققت نسبا عالية من عدد المشاهدات وهذه أول مرة يحدث فيها أن يحقق نجاحا بالغا صوتٌ ممثلٌ للقضية الفلسطينية ومدافع عنها ونحن بحاجة لتكرار مثل هذه النجاحات، كذلك فإن من الوسائل الممكنة لإيصال صوت الحق للأجانب في بلداننا هم كتّابنا الذين ينشرون مقالات باللغة الإنجليزية في الصحف المحلية الناطقة بغير العربية.

جميعنا تابعنا كثيرا من المناظرات واللقاءات المتلفزة وبرامج الحوار على المستوى العالمي التي استُضيف فيها متحدثون من الطرفين، ولا شك أننا بدأنا نفهم المحاور التي يلعب عليها أصحاب السردية المضادة لأجل اجتذاب المتابع إلى صف المعتدي ولأجل تجريم الضحية، ومن الأمثلة على هذه المحاور التي يروجون لها: مزاعم الدروع البشرية، وحشية المقاومة ولاإنسانيتها، علكة معاداة اليهودية -تعمدنا تصحيح المصطلح- وادعاء رفض الفلسطينيين للسلام إضافة إلى نفي تُهم التطهير العرقي بذريعة «الأضرار الجانبية»، ولأجل الوصول إلى الرأي العام العالمي ونقل الحقيقة المغيبة عن كثير من شعوب العالم فإنه لا بد لنا من استيعاب سردية العدو وفهم استراتيجية الخداع التي تمارسها آلته الإعلامية ولا بد كذلك من الإحاطة بأدبيات الصهاينة ومؤرخيهم الذين يلقنون الغرب مزاعمهم بخصوص تاريخ المنطقة وما جرى فيها من صراع طوال قرن من الزمان.

إن أهمية هذا الفهم والاستيعاب لسردية المحتل النازي لا تحتاج إلى إثبات ما دمنا بصدد الحديث عن صراع السرديات والتي للمنتصر فيها أفضلية في سباق كسب التعاطف العالمي لصالحه.

إننا جميعا في حاجة إلى نوع من الاستعداد المعرفي لمحاورة الآخر ولدحض سردية الاحتلال المجرم، وبقدر ما يبدو مبتذلا ومستهلكا شعار مثل «التسلح بالوعي» فإنه بالقدر ذاته بالغ الدقة في موضوع المجابهة بين السرديتين، يتضح ذلك في كثير من الحوارات المتبادلة بين أنصار المعسكرين حيث كثيرا ما ينفضح جهل أحد الطرفين -ولا أستثني أحيانا المحاورين المتحمسين لنصرة غزة- إما بسبب وقوعه تحت تأثير البروباجندا الإعلامية الموالي لها أو بسبب فهم مغلوط تجاه أحد جوانب الموضوع قيد النقاش، إننا مطالبون بفهم واستيعاب المنطلقات النظرية التي يستند إليها المتحدثون المتصهينون سواء كانوا إسرائيليين أو غيرهم، علينا أن نستوعب مزاعمهم التي تعزف على أوتار مثل «الشتات اليهودي» و«أرض بلا شعب»، أن نبدأ بالتاريخ القديم قبل التاريخ المعاصر ونستوعبهما ونفند المزاعم الإسرائيلية بخصوص التاريخ، علينا أن نعي كيف نرد على مزاعم مثل «عدم قبول العرب لحق إقامة دولة يهودية» في ١٩٤٨ وعلينا أن نحيط بما يرددونه من مزاعم مثل دعم هتلر لمفتي القدس الحسيني ومثل أن تهجير عرب ٤٨ كان بتشجيع عربي وليس تهجيرا صهيونيا، كثير غيرها من الادعاءات -سواء تعلقت بالسردية التاريخية للوقائع أو بفلسفة العدالة أو بأخلاق الحرب وغيرها- يجب أن نحيط بها علما وأن ندرك صياغتها كما يروجون لها أولا ثم كما هي على حقيقتها ثانيا، وهذه هي الخطوة الأولى في مسيرة مجابهة السردية الزائفة للاحتلال الإسرائيلي، خطوة أولى هي على قدر كبير من الأهمية لأجل أن لا يكون الحماس والاندفاع مبنيا على جهل وضعف في الإدراك والتصور بل يكون مؤسسا على أرض معرفية صلبة قادرة على كشف عوار البروباجندا الصهيونازية.

إن السردية المضادة نجحت في حجب كثير من الحقائق وقامت بتغطيتها عن الوعي العالمي، حقائق مثل أن فلسطين هو الاسم المتعارف تاريخيا على منطقة الصراع لمئات السنين وأن مصطلح إسرائيل لم ينتقل من حيز المخيلة الدينية اليهودية إلى واقع الاحتلال إلا منذ انتهاء الانتداب البريطاني فقط، ومثل أن اضطهاد الأوروبيين لفئة أوروبية انتسبت اعتباطا لشعوب الشرق الأوسط ليس مبررا لتكرار مأساة الهنود الحمر الذين اغتُصبت أراضيهم من قبل المهاجرين الأوروبيين، هذا عن التاريخ القديم، أما التاريخ المعاصر فيحفل كذلك بعشرات الحقائق الأخرى المحجوبة عن مجال التداول من قبل الإعلام الغربي والتي قد يجهلها للأسف كثير من أبناء الشعوب العربية، إن جهلنا للأدبيات التي أنتجها الأوروبيون -المحتلون لفلسطين بزعم انتماء أجدادهم للأرض أو مناصروهم- هو ما يصعّب مهمة الفوز بصراع السرديات وما لم نملأ الفراغ المعرفي المتعلق بهذا الجانب فإن المهمة ستظل عسيرة والنتائج ستبقى بعيدة المنال.

محمد الحراصي كاتب عماني