الحرب الروسية على أوكرانيا مرحلة الاستنزاف

13 سبتمبر 2022
13 سبتمبر 2022

الحروب والصراعات التي تندلع لأسباب جيوسياسية تتحدد أهدافها على ضوء مسار تلك الحرب أو ذلك الصراع، وفي حالة الحرب الروسية على أوكرانيا التي بدأت عملياتها العسكرية في فبراير الماضي كانت أهداف القيادة الروسية هي السيطرة على العاصمة كييف وربما إسقاط النظام الأوكراني، وهو الأمر الذي تمثل في محاصرة العاصمة الأوكرانية في الهجمات العسكرية الأولى، حيث حدث اختراق كبير في اتجاه العاصمة كييف وكانت القوات الروسية على بعد ٢٠ كيلومترًا، وهو الأمر الذي جعل عددا من المراقبين للحرب يذهبون للقول إن سقوط كييف يعني سقوط النظام السياسي وهو الأمر الذي حدث في عدد من الاجتياحات العسكرية كما حدث في أفغانستان عام ٢٠٠١ وانتهى بسقوط نظام طالبان ثم تكرر المشهد في العراق عام ٢٠٠٣ بعد الغزو العسكري الأمريكي للعراق الذي انتهى باحتلال العاصمة بغداد وسقوط نظام صدام حسين.

ويبدو لأي مراقب للحرب الروسية على أوكرانيا أن الخطة الروسية لم تكن بعيدة عن النموذجين المشار إليهما وهي مسألة سقوط العواصم وبالتالي سقوط الأنظمة السياسية، كما حدث في كابول وبغداد ومع ذلك صمدت القوات الأوكرانية لأسباب موضوعية من خلال التدفق الكبير للسلاح من الغرب والولايات المتحدة الأمريكية علاوة على أن طريقة الحرب والعمليات تكاد تكون متشابهة على اعتبار أن الجيش الأوكراني كان جزءًا من القوات المسلحة السوفييتية السابقة، ومن هنا يمكن القول وبتحليل موضوعي أن الخطة الاستراتيجية الروسية الأساسية لاجتياح العاصمة كييف لم تنجح، ومن هنا تم الاعتماد على الخطة البديلة، وهي اجتياح المناطق الشرقية من أوكرانيا وهو الصراع الذي يدور الآن.. والسؤال المهم هنا هل بدأت الحرب الروسية على أوكرانيا تتحول إلى حرب استنزاف بعد مضي ثمانية أشهر أم أن الوقت لا يزال مبكرًا للحكم على تداعيات الحرب، كما أشار إلى ذلك وزير الخارجية الأمريكي بلنكن؟!

مع ذلك فإن المقاربة السياسية لهذه الحرب تبدو معقدة ومرشحة للتصعيد في إطار الصراع الأوسع بين دول الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية، ومعها عدد من الداعمين من الجمهوريات السوفييتية السابقة وأيضًا التعاطف الصيني مع مجموعة بريكس. الاستراتيجية الأمريكية تنطلق من ضرورة استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا لأطول فترة ممكنة وربما يكون المشهد السوفييتي الذي تورط في أفغانستان في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وحتى التورط الأمريكي أيضًا في أفغانستان عام ٢٠٠١ ولمدة عقدين هو النموذج الذي استندت عليه الاستراتيجية الأمريكية والغربية وهذا يتضح من خلال ردود الفعل القوية تجاه شن روسيا الاتحادية الحرب على أوكرانيا، حيث فرض العقوبات الاقتصادية القاسية على روسيا الاتحادية، وهي الأقسى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية علاوة على تدفق السلاح على أوكرانيا بكميات كبيرة ولعل الاختراق الأوكراني العسكري الأخير في خاركيف والاستيلاء على عشرات البلدات من القوات الروسية هو مؤشر على تأثير السلاح الأمريكي، ومن هنا فإن مرور ثمانية أشهر على عدم تحقيق الأهداف الاستراتيجية الروسية في المنطقة الشرقية لأوكرانيا يضع علامة استفهام كبيرة من خلال تحول الحرب إلى حرب استنزاف خاصة إذا لم يحدث اختراق روسي عسكري كبير خلال ما تبقى من هذا العام، ومن هنا فإن الاستراتيجية الأمريكية، كما تشير التقارير تهدف إلى إضعاف روسيا وإيصالها إلى قناعة بأن استمرار الحرب سوف يدخلها في متاهات وخسارة اقتصادية وعسكرية كبيرة، كما حدث لها في أفغانستان مع تغير الظروف السياسية ومع ذلك اعتبر التدخل السوفييتي في أفغانستان هو أحد العوامل الأساسية لتفكك الاتحاد السوفييتي السابق عام ١٩٩١ ومن هنا فإن صراع الإرادات يدور حول استراتيجية أمريكية تهدف إلى إطالة أمد الحرب وإلى استراتيجية روسية تحاول الانتهاء من تحقيق الأهداف الحالية وهي السيطرة على المناطق الشرقية أو الجزء الأكبر منها لفرض واقع سياسي جديد وهو أن تعلن أوكرانيا تخليها عن الانضمام إلى حلف الناتو وعلى ضوء كلا الاستراتيجيتين لكل من واشنطن وموسكو يدور الصراع ليس فقط العسكري ولكن الأهم منه الصراع العالمي على الطاقة والحرب الاقتصادية ممثلًا في العقوبات القاسية من الغرب على روسيا الاتحادية.

وفي تصوري أن ملامح حرب الاستنزاف قد بدأت من خلال الهجوم الأوكراني المضاد في بعض مدن الشرق الأوكراني وتحقيق مكاسب على الأرض، صحيح أنه من المبكر على نتائج ذلك الهجوم ولكن نحن هنا نتحدث عن عمليات كر وفر وهو ما يعني بالمفهوم العسكري للحروب تحول تلك المواجهات إلى حرب استنزاف وهو ما يحدث الآن في اليمن ودخول هذه الحرب عامها الثامن وهناك عدد من النماذج في تاريخ الحروب والصراعات الإقليمية في العصر الحديث ولعل أشهرها الحرب بين العراق وإيران التي استمرت ثماني سنوات وهي أطول حرب استنزاف إقليمية بين بلدين في التاريخ الحديث، ومن هنا فإن روسيا الاتحادية تحاول تجنب مشهد حرب الاستنزاف الذي بدأت بعض ملامحه في الظهور؛ لأن استمرار تلك الحرب أو العملية العسكرية الخاصة، كما يطلق عليها في روسيا الاتحادية سوف يؤدي إلى حرب استنزاف مكلفة اقتصاديًا وعسكريًا وحتى إنسانيًا وهذا لن يكون في مصلحة روسيا. صحيح أن أوروبا سوف تعاني من حرب الطاقة وخاصة الغاز الروسي ومع ذلك فإن حرب الاستنزاف سوف تدخل روسيا الاتحادية في مستنقع كبير.

وعلى ضوء محددات ذلك الصراع العسكري الروسي لأوكرانيا وتداعياته فإن المشهد السياسي يتطلب البحث عن حل موضوعي من خلال المفاوضات الروسية-الأوكرانية المباشرة خاصة أن هناك استقطابا غربيًا وأمريكيًا سوف يتواصل وقد تنزلق الأمور إلى ما هو أبعد من الحرب التقليدية في مرحلة ما بعد حرب الاستنزاف بسبب خطأ بشري من هنا وهناك خاصة إذا تدحرجت الحرب تجاه أوروبا خاصة بولندا ودول البلطيق هنا تكون أوروبا قد دخلت فعليًا الحرب وهنا تكون ملامح الحرب العالمية الثالثة هي حقيقة ويصبح العالم على كف عفريت كما يقال.

إذن الحل الواقعي في نموذج الحرب الروسية-الأوكرانية هو حل المفاوضات والخروج بمنطق سياسي يراعي مصالح روسيا الاتحادية الأمنية خاصة تعهد أوكرانيا بعدم الانضمام إلى حلف الناتو وهذه نقطة جوهرية في الصراع الذي بدأ عام ٢٠١٤ وانتهى بسيطرة موسكو على شبه جزيرة القرم لدواعٍ أمنية واستراتيجية، كما تحدثت موسكو عن ذلك علاوة على الحق التاريخي، كما تقول روسيا الاتحادية وهذه مقولات تاريخية معقدة ومن هنا فإن الوصول إلى قناعات مشتركة بين موسكو وكييف بالتفاوض هو أفضل الخيارات للطرفين حتى بالنسبة لكييف لأن الجغرافيا في النهاية لن تتغير وسوف تبقى أوكرانيا جارة لروسيا الاتحادية، كما أن هناك مصالح اقتصادية حيوية وأيضا هناك تلاقٍ اجتماعي، ومن هنا فإن الحوار وإنْ كان صعبًا يبقى هو الخيار الأنسب للطرفين والخروج بمقاربة سياسية موضوعية وبدون ذلك فإن الطرفين سوف يدخلان في حرب استنزاف طويلة الأمد، وسوف يكون المزيد من التكلفة العسكرية والاقتصادية وتدمير البنية الأساسية متواصلة خاصة في مدن أوكرانيا. من ملامح الحرب الروسية على أوكرانيا هو ظهور أهم متغير في الحرب وهو الورقة الاستراتيجية وهي الطاقة وخاصة الغاز الروسي، حيث يشهد العالم حرب الطاقة التي تعد أوروبا ساحته الأساسية، حيث الضغط الروسي لوقف إمدادات الغاز إلى ألمانيا، وعدد من الدول الغربية، حيث ارتفعت أسعار الغاز إلى أضعاف، كما أن مسألة الاستقطاب السياسي جعلت العالم في مواجهة محتدمة، وفي مفترق طرق ومن هنا فإن ورقة الغاز الروسي لا شك أنها من أهم الأوراق في لعبة استراتيجية الحرب الروسية على أوكرانيا ووضعت أوروبا في مأزق حقيقي وحدث انقسام كبير في مسألة تسعير الغاز الروسي وعلى ضوء ذلك فإن حرب الطاقة يجعل من أمر المفاوضات أمرًا حيويًا، ولا بد أن تشجع أوروبا عليه، حيث إن الولايات المتحدة الأمريكية ليست متضررة بشكل كبير من الحرب قياسًا بأوروبا؛ لأن واشنطن ليست لديها مشكلة في توفر الطاقة، كما أن الشتاء قادم على الدول الغربية، وهذا سوف يضعها في موقف صعب؛ لأن توقف إمدادات الغاز الروسي سوف يوجد مشكلات كبيرة خاصة على الصعيد الشعبي، كما تتوقع بعض مراكز قياس الرأي في العواصم الأوروبية ومع حدوث التقشف في مجال الطاقة وتوفير الغاز فإنه من الصعب احتواء الأزمة على المدى القريب وحتى المتوسط ومن هنا فإن مصلحة الأطراف في الصراع الروسي-الأوكراني هو إيجاد مدخل ومقاربة سياسية تنهي الحرب خاصة أن آثار تلك الحرب أثرت على الأمن الغذائي العالمي وارتفاع أسعار المواد الأولية وهناك بوادر ركود اقتصادي عالمي وكل تلك المتغيرات لها تأثيرات اقتصادية سلبية على دول العالم المتقدمة منها والنامية فهل تنتهي تلك الحرب من خلال المفاوضات أم نشهد نموذجًا آخر على حرب استنزاف طويلة الأمد.