الحرب الروسية الأوكرانية وهاجس حرب الاستنزاف
الحرب الروسية الأوكرانية دخلت مرحلة معقدة بعد مرور ستة أشهر من اندلاعها من خلال شن العمليات العسكرية من قبل روسيا الاتحادية ويبدو لي أن الاستراتيجية العسكرية الروسية تعتمد على احتلال العاصمة الأوكرانية كييف، وتغيير النظام السياسي، وبعد ذلك وضع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية في وضع لا خيار فيه في ظل ما تحقق على أرض المعركة، في حين أن واشنطن قد ركزت ومعها الدول الغربية على إطالة أمد الحرب حتى تتحوَّل تدريجيا إلى حرب استنزاف، وهو الأمر الذي عانت منه قوات الاتحاد السوفييتي السابق إبان غزوها لأفغانستان في عقد الثمانينيات حتى اندحار تلك القوات بل وتسبب ذلك الغزو العسكري السوفييتي في تفكك الاتحاد السوفييتي نفسه. كما عانت أيضا القوات الأمريكية عندما احتلت أفغانستان عام ٢٠٠١ بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر من قبل القاعدة وتحوَّلت الحرب الأمريكية في أفغانستان إلى حرب استنزاف أدت إلى الانسحاب الأمريكي المذل كما شاهده العالم.
وأمام هذين النموذجين الروسي والأمريكي في أفغانستان يمكن استحضار الوضع العسكري الحالي للمواجهة الروسية الأوكرانية، حيث إن المؤشرات تقول إن الأهداف الاستراتيجية الكلية للقيادة الروسية التي تمت الإشارة لها قد فشلت خاصة احتلال العاصمة كييف والتي كانت القوات الروسية على مشارفها بل وتكثيف القصف عليها. ومن هنا تحوَّلت تلك الأهداف الاستراتيجية إلى الهدف المعلن الآن وهو السيطرة على المناطق في شرق أوكرانيا ذات الكثافة السكانية المنحدرة من أصول روسية. ومن هنا فإن المشهد العسكري ورغم التقدم النسبي الروسي في السيطرة على بعض المدن الأوكرانية في الشرق فإن السيطرة بشكل كامل لم يتحقق، وهنا تستحضر القيادة الروسية مسألة أن تتحوَّل الحرب الروسية الأوكرانية إلى حرب استنزاف وهو الأمر الذي يحقق الهدف الاستراتيجي الأمريكي بشكل خاص في إطار المواجهة الكبرى بين واشنطن وموسكو.
حرب الاستنزاف
حروب الاستنزاف في المواجهات العسكرية مكلفة ماديا وبشريا ومرهقة للجيوش، وقد تمت الإشارة إلى حروب الاستنزاف في أفغانستان والتي خاضتها كل من القوات السوفييتية السابقة والقوات الأمريكية حيث تم الانسحاب المذل لكلا الجيشين بعد عقود من الصراع المعقد والدامي في أفغانستان استمر لأكثر من ثلاثة عقود. ومن هنا فإن القوات الروسية لم تستطع بعد ستة أشهر من حسم المعركة في شرق أوكرانيا رغم فارق الإمكانيات العسكرية والبشرية بين القوات الروسية والأوكرانية، ولعل عامل تدفق السلاح الأمريكي والغربي على أوكرانيا وبكميات كبيرة قد جعل من الحسم العسكري يتعقد وهو ليس كل العوامل، كما أن مسألة احتلال المدن مسألة صعبة في ظل طول المسافات ومسألة الدعم اللوجستي. ومن هنا فإنه في الفترة القادمة وحتى نهاية العام الحالي سوف تتضح الصورة العسكرية بين نجاح الأهداف العسكرية الروسية في السيطرة على شرق أوكرانيا وبين فشل تلك الأهداف وأطلال موضوع حرب الاستنزاف التي بدأ بعض ملامحها في الظهور من خلال عمليات الكر والفر.
حرب الاستنزاف، كما تمت الإشارة، هي حرب سوف تُدخِل روسيا الاتحادية في مأزق حقيقي، خاصة أن العقوبات الاقتصادية الغربية والأمريكية تعد مؤثرة بشكل كبير ولها نتائج كارثية على الاقتصاد الروسي مع إطالة أمد الحرب، وعلى ضوء ذلك فإن المعركة أو تحقيق الأهداف الاستراتيجية هي مسألة حاسمة خلال الشهور القادمة، لأن الحرب الكارثية في أوكرانيا سوف تتحوَّل تدريجيا إلى حرب استنزاف قد تمتد لسنوات، وهو الهدف الاستراتيجي الأمريكي الذي تحدّث عنه وزير الدفاع الأمريكي أوستن بأن الهدف الأهم للولايات المتحدة الأمريكية هو إضعاف روسيا، وهو الأمر الذي يظهر بشكل واضح في الكم الكبير من تدفق السلاح الأمريكي الحديث على أوكرانيا، علاوة على ذلك فإن القصف الجوي لا يمكن أن يحسم المعركة ولعل أوضح دليل على ذلك القصف الجوي لقوات التحالف على اليمن والذي استمر لسنوات ولم يُسفر عن سقوط العاصمة اليمنية صنعاء على سبيل المثال رغم فارق الإمكانيات بين أطراف الصراع العسكري في اليمن.
المفاوضات هي الحل
في ظل المشهد السياسي والعسكري وفي ظل العقوبات الاقتصادية القاسية على روسيا تعد ورقة الطاقة خاصة الغاز، هي من أهم الأوراق التي تناور بها موسكو، ولا شك أن أوروبا وليس الولايات المتحدة الأمريكية هي الخاسر الأكبر من الحرب الروسية الأوكرانية خاصة فيما يتعلق بموضوع الطاقة، والتي ترتب عليها صعود نسب التضخم والأسعار والتي أدت إلى سقوط رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون وأيضا رئيس الوزراء الإيطالي، وقد يواجه الحزب الديمقراطي الأمريكي هزيمة في الانتخابات النصفية للكونجرس في نوفمبر القادم. ومن هنا فإن التأثير الاقتصادي طال الجميع خاصة في مجال الطاقة، وكما يقال في الحروب من يصرخ أولا، هذه هي المعادلة الكبيرة، فأسعار البنزين في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية سوف تؤثر على المشهد السياسي مما دفع الرئيس الأمريكي بايدن لأن يقوم بجولة في المنطقة وكان من أهم ملفاتها موضوع الطاقة حيث لم يستطع أن يخترق هذا الملف لاعتبارات تتعلق باتفاق "أوبك بلس" الذي ينطلق من خلال آليات السوق.
وأمام هذا المشهد السياسي والعسكري والاقتصادي المعقد والمتشابك والذي أضر العالم في مجال سلاسل إمداد الغذاء خاصة القمح، يبقى الحوار وآلية المفاوضات هما السبيل الوحيد لإنهاء الصراع بين روسيا الاتحادية وأوكرانيا مع التأكيد بأن أوكرانيا هي دولة مستقلة، ولا يمكن اقتطاع جزء من أراضيها تحت دعاوى الأقليات، لأن حدوث ذلك قد يقود إلى نماذج قادمة في عالم اليوم الذي يموج بالصراعات والطموحات غير المنضبطة في إطار أهداف النفوذ والسيطرة.
إن المفاوضات بين موسكو وكييف هي الآلية الصحيحة لإنهاء الخلافات والعودة إلى علاقات طبيعية، أما إذا استمر الصراع فإن الجميع خاسر ومن الصعب الحديث عن السيطرة على الأراضي الغير في شرق أوكرانيا تحت أي حجة ولكن يمكن عمل ترتيبات للأقليات في ظل القانون الدولي ومنظومة الأمم المتحدة، كما أن الصراع الروسي الأوكراني قد يمتد إلى أوروبا، وهو الأمر الذي قد يشعل حربا عالمية مع تصاعد الحرب وتشعبها وفي ظل حرب الطاقة والغذاء واستمرار نظرية التدمير التي دمرت أوروبا في الحرب العالمية الثانية، وفي المحصلة الأخيرة تظل آلية المفاوضات هي الخيار الأفضل حتى يتجنب العالم الأسوأ.
