الحرب الثقافية في جامعة هارفارد وغيرها

09 يناير 2024
09 يناير 2024

لقد اضطرت كلودين جاي، أول رئيسة سوداء لجامعة هارفارد، إلى الاستقالة بعد أسابيع من الضغوط من أجل التنحي عن منصبها، لكن كل من شارك في الجدل الذي دفعها للاستقالة يبدو في صورة سيئة.

لقد كان السبب الظاهري للإطاحة بها هو الكتابة الأكاديمية غير المتقنة - في الأغلب الفشل في أن تشير إلى أسماء الأكاديميين الآخرين الذين اقتبست منهم كلمة بكلمة تقريبًا في أعمال منشورة سابقًا- لكن هذه الاكتشافات جاءت في أعقاب مزاعم بمعاداة السامية والمعايير المزدوجة. عندما سألتها عضوة الكونجرس الجمهورية إليز ستيفانيك عما إذا كان الطلاب المتظاهرون «الذين يدعون إلى الإبادة الجماعية لليهود ينتهكون قواعد السلوك في جامعة هارفارد»، أجابت جاي بأن ذلك «يعتمد على السياق». ليس هناك شك في أنه لو كان السؤال يشير إلى الإبادة الجماعية للسود، لما كان السياق مطلوبًا. لكن جاي كانت تسير نحو فخ محكم فلقد تعمدت ستيفانيك الخلط بين الدعوة للإبادة الجماعية ودعم الانتفاضة الفلسطينية (الثورة المسلحة)، والأخيرة قد تنطوي على العنف، ولكنها ليست إبادة جماعية. إن الناشطين اليمينيين الذين ساعدوا في طرد جاي من وظيفتها يبدون في صورة سيئة أيضًا. إن هؤلاء الناشطين بقيادة كريستوفر روفو من معهد مانهاتن ينظرون إلى حياتها المهنية كرمز للتفضيل العنصري غير العادل، ومن جانبها، اتهمتهم جاي بالعنصرية، وحتى لو لم يكونوا عنصريين، فإنهم يقلدون ما يسمى بالتقدميين الذين يسعون إلى «إلغاء» الأشخاص الذين لا يتوافقون مع مواقفهم الأيديولوجية. وأخيرًا، يبدو المانحون اليهود الأثرياء لجامعة هارفارد، مثل مدير صندوق التحوط بيل أكمان في صورة سيئة أيضًا وذلك بسبب شنهم حملة علاقات عامة لا هوادة فيها ضد جاي. إن التبرع بالمال لا ينبغي أن يعطي المرء الحق في التدخل بالأمور الأكاديمية. إن أكمان أيضًا يزعم بوجود عنصرية حيث يجادل بأن جامعة هارفارد تتساهل مع الكراهية تجاه اليهود. إن من الواضح أن الهوس الأميركي بالعِرق هو أحد الأسباب وراء هذه الفوضى غير البناءة من الاتهامات والاتهامات المضادة، ومع ذلك فإن الإطاحة بجاي ــ إلى جانب طرد رئيسة جامعة بنسلفانيا ليز ماجيل، التي وقعت أيضًا في فخ ستيفانيك ــ تكشف شيئا مثيرًا للاهتمام حول النظرة المتغيرة تجاه اليهود.

لا يوجد أي دليل على أن جاي أو ماجيل أو العديد من المتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين في الحرم الجامعي معادون للسامية. (إن أنصار حماس هم أمر مختلف)، ولكن الهوس العنصري يسيطر على عقول المدافعين الأكثر تعصبًا عن القضية الفلسطينية كما هو الحال مع المحرضين اليمينيين الذين تسيطر على عقولهم معارضة جهود «التنوع والمساواة والاندماج». إن هؤلاء ينظرون إلى العنف في غزة والقمع الإسرائيلي للفلسطينيين كمثال على التفوق الأبيض.

وحسب وجهة النظر تلك فإن الإسرائيليين هم أشخاص بيض يمارسون الاستبداد الوحشي ضد أشخاص ملونين، ولهذا السبب يردد المتظاهرون المؤيدون لفلسطين شعارات مثل: «جيش الدفاع الإسرائيلي، كو كلوكس كلان، أنتم متشابهون!» - وكأن الجنود الإسرائيليين يشبهون العنصريين الجنوبيين الملثمين الذين أعدموا السود ذات يوم. إن حقيقة أن معظم الإسرائيليين ينحدرون من دول عربية ولا يمكن تمييزهم جسديًا عن السكان العرب تبدو غير ذات صلة. يمثل هذا الرأي تغييرا جوهريا مقارنة بمعاداة السامية في الماضي، فقبل القرن التاسع عشر، كان المسيحيون يضطهدون اليهود لأنه من المفترض أنهم قتلة المسيح، ولكن مع تأسيس الدول القومية الحديثة وبعد أن أصبح اليهود أقل تدينًا ومتحررين اجتماعيًا، تم اختراع فروقات بيولوجية زائفة جديدة لتبرير الكراهية القديمة. إن المتعصبين الأوروبيين والأمريكيين لم ينظروا لليهود على الإطلاق على أنهم رفاقهم من البيض، بل على أنهم عرق غريب. إن المعادين للسامية من جميع التوجهات السياسية يشتركون في شكوكهم القائمة على نظرية المؤامرة بأن اليهود يشكلون عصابة عالمية تتمتع بقوة هائلة وراء الكواليس، وفي حين كان اليمينيون المعادون للسامية ينظرون إلى اليهود باعتبارهم متآمرين بلشفيين عازمين على تقويض نقاء الأمم، كان الشيوعيون ينظرون إليهم باعتبارهم من طبقة الأثرياء الرأسماليين الحاكمة والذين يضطهدون الطبقة العاملة.

إن السبب الرئيسي وراء انجذاب العديد من اليهود للصهيونية هو أن وجود دولتهم الخاصة من شأنه أن يحررهم أخيرًا من الاضطهاد باعتبارهم غرباء دائمين، أو باعتبارهم «عالميين بلا جذور» كما أسماهم ستالين، وفي إسرائيل، أخيرًا، أصبح بإمكانهم أن يشعروا بأنهم متجذرون. ولكن كما توقع بعض منتقدي إسرائيل في وقت مبكر جدًا، فإن هذا من شأنه أن يؤدي إلى تبني إسرائيل تدريجيًا لبعض الخصائص نفسها تمامًا مثل الدول التي اضطهدت اليهود في الماضي: مفاهيم التفرد العرقي والشوفينية والتبجح العسكري، وعلى الرغم من أن هانا أرندت كانت صهيونية في الأربعينيات من القرن الماضي، إلا أنها أصبحت ناقدة عندما رأت أن دولة اليهود أصبحت دولة يهودية - ليست ملاذًا للاجئين المضطهدين، بل دولة قائمة على أساس القومية العرقية والدينية والشعور بعدم إمكانية المساس بها أخلافيًا وذلك على أساس تاريخ كانت فيه الضحية. لقد استغرق هذا التحول بعض الوقت. لقد كان العديد من المستوطنين الأوائل مثاليين يساريين. لكن الحكومة الإسرائيلية الحالية تضم وزراء عنصريين بلا خجل. لقد أدين إيتامار بن جفير، وزير الأمن القومي، ست مرات بتهمة التحريض، ولهذا السبب وحده، تحظى إسرائيل الآن بإعجاب كبير من قبل السياسيين اليمينيين المتطرفين في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. أما في ثلاثينيات القرن الماضي، فلقد كان «مؤيدو أمريكا أولًا» مثل تشارلز ليندبيرغ، الطيار البطل، في كثير من الأحيان من المعادين للسامية وأظهروا تعاطفًا ليس بالقليل مع ألمانيا النازية. ومع ذلك، نجد اليوم أن دونالد ترامب وغيره من الذين يدعون إلى «أمريكا أولا» هم من أشد المعجبين بالدولة اليهودية، وهو ما يفسر لماذا يقارن العديد من الناشطين في الجامعات قوات الدفاع الإسرائيلية بمنظمة كو كلوكس كلان.

لقد اعتاد المعادون السامية على ربط اليهود بالولايات المتحدة الأمريكية لأن القوميين الأوروبيين كانوا ينظرون إلى كليهما باعتبارهما رمزين لعالمية بلا جذور. أما الآن فيربط المتظاهرون المؤيدون لفلسطين بين إسرائيل والولايات المتحدة لأنهم ينظرون إلى كلا البلدين باعتبارهما رموزا للقمع الأبيض للأشخاص الملونين. ربما كان هذا هو السياق الذي تحدثت عنه جاي عندما حاولت الإجابة على سؤال ستيفانيك الخادع. لقد كنت أتمنى لو أن جاي قد عبرت عن نفسها بطريقة أقل ارتباكًا وأن تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية بما في ذلك أعلى مؤسساتها التعليمية من تخفيف هوسها بالعِرق لكن هذا يبدو أمرًا صعب المنال للغاية في الوقت الحالي.

إيان بوروما كاتب وروائي وهو صاحب رواية «القتل في أمستردام»

خدمة بروجيكت سنديكيت