الحاجة إلى تأسيس نظام عالمي أخلاقي

08 مارس 2022
08 مارس 2022

قلت في مقالي السابق أن نشأة الدولة كنظام سياسي كانت ضرورة اقتضاها درء العدوان المتأصل في الطبيعة البشرية للأفراد. ولكن نشأة المؤسسات والمنظمات الدولية كانت ضرورة لدرء العدوان بين الدول، وليس مجرد إدارة النزاعات والصراعات بين الأفراد. ومع ذلك، فإن العوار المتأصل في بنية هذه المؤسسات هو ما جعلها تخفق في كبح هذا العدوان بين الدول؛ لأنها لا تزال تكرس هيمنة الدول العظمى، دفاعًا عن مصالحها على حساب الدول الضعيفة وشعوبها.

هذه الحقيقة لا تتبدى فحسب على مستوى النُّظم السياسية، وإنما أيضًا على مستوى النُّظم الاقتصادية التي ترتبط بها ارتباطًا وثيقًا؛ وهو ما أدى في النهاية إلى إقرار ما يُسمى بالنظام العالمي الجديد والعمل على دعمه والترويج له. لقد انكشف قناع هذا النظام وأثبت فشله في درء الصراعات بين الدول، وهذا ما تبدى بوضوح من خلال نظم العولمة التي عملت على تأجيج الصراع بين الهويات؛ لأنها أدت- رغم دعاوها العريضة- إلى سحق الهويات، وهو ما أدى بدوره إلى خلق استجابتين مختلفتين، كلاهما سلبية: الأولى هي ضياع الهوية من خلال الانسحاق التام في الآخر القوي المهيمن، والثانية تتمثل في رد فعل مضاد لدى بعض الشعوب والجماعات التي تسعى إلى مواجهة هذا الانسحاق من خلال التشبث بالدين والملة والعِرق في مواجهة الآخر المغاير في العقيدة والملة، ومن ثم معاداته، بل تكفيره أحيانًا. ونحن نلاحظ أيضًا فشل هذا النظام العالمي الجديد على مستوى النُّظم السياسية حينما تديرها قوى عظمى تكيل بمكيالين في إدارة الصراعات العالمية، وهو ما يتبدى بوجه خاص في سياسة الغرب الذي يسعى بقوة منذ الحرب العالمية الثانية إلى الهيمنة على موازين هذه القوى: ولهذا انتفض الغرب كله، وسعى إلى تجييش العالم ضد حرب روسيا على أوكرانيا، بينما يتخذ- على سبيل المثال- مواقفَ هزيلة إزاء عدوان إسرائيل المتكرر على الشعب الفلسطيني منذ عقود طويلة. والواقع أن هذا يؤكد أن النزعة الإمبريالية التي تعبر عن ذاتها في مركزية الغرب هي نزعة لا تزال متأصلة في الوعي لدى أهل الغرب. ولقد شاهدنا ذلك مؤخرًا في مواقف بعض المنتمين إلى شبكات إعلامية غربية شهيرة، حينما ذهبوا إلى تبرير انتفاض الغرب دفاعًا عن أوكرانيا بالقول بأن الأوكرانيين هم مِثلنا من أصحاب البشرة البيضاء والعيون الزرقاء! ولو أن واحدًا من العرب ممن يعملون بهذه الشبكات قد تبنى موقفًا مدافعًا عن بني جنسه بأية أوصاف، لتم فصله على الفور، وهو ما تكرر حدوثه في الآونة الأخيرة.

وأنا لا أهدف من وراء هذا الكلام إلى تبرير حرب روسيا على أوكرانيا بأي حال من الأحوال، وإنما أهدف إلى التأكيد على أن هذه الحرب تؤدي في النهاية إلى زعزعة مركزية الغرب كقوة مهيمنة على إدارة الصراع العالمي، خاصةً حينما نضع في الاعتبار تعاظم قوى أخرى في إدارة هذا الصراع، وعلى رأسها الصين بما لها من هيمنة اقتصادية، ومن ثم قدرة التأثير في القرار السياسي. وهكذا يمكن القول إن الحرب على أوكرانيا- كما أكدت في مقالي السابق- هي شر، ولكنها شر في مواجهة شر أعظم يتمثل في هيمنة قوة على سائر القوى الأخرى. وكل هذا يكشف بوضوح عن فشل النظام العالمي الراهن على سائر أصعدته. خطورة الأمر تنكشف يومًا بعد يوم حتى أصبحت ظاهرة بجلاء في يومنا هذا: فالحرب الآن حينما تندلع بين هذه القوى لن تكون حربًا عالمية تشبه الحربين السابقتين؛ لأن هذه القوى أصبحت تمتلك الآن قدرات نووية يمكنها تدمير العالم ذاته في لحظة من الجنون البشري المحتمل.

ما أود التأكيد عليه أن النظام العالمي الراهن يحتاج إلى إعادة تأسيس بناءً على نظام أخلاقي جديد له طبيعة إلزامية. وبوجه عام، فإني أرى أن الشروط الأخلاقية التي وضعها الإسلام للحرب والعدوان بجانب بعض الشرط التي وضعها كانط وغيره من الفلاسفة العظام، هي شرط تصلح لأن تكون معاييرَ ضرورية في هذا الصدد. ويكفي أن نذكر هنا بعضًا من المعايير العامة التي نجدها في الإسلام، ومنها على سبيل المثال: أن الحرب لا تكون مشروعة إلا لدرء فتنة تهدد الأمن والسلم (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة)؛ وأن الحرب تكون مشروعة فقط في حالة الدفاع ورد العدوان الخارجي (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا)؛ وأن الأصل هو إذكاء روح السلم وتحجيم روح العدوان (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها). وهذا يعني ببساط أن تعاليم الإسلام تدعوننا إلى نبذ روح العدوان المتأصلة في طبيعة النفس البشرية، ما لم يكن إذكاء هذه الروح من أجل درء خطر أعظم. ومن المدهش أن بعضًا من الجماعات التي تدين بالإسلام تمارس العدوان الذي يجافي التعاليم الأخلاقية للدين نفسه، وهذا هو السبب في الخلط السائد في الوعي الغربي بين الإسلام والمتأسلمين.

لا يهم المصدر الذي نستقي منه المعايير الأخلاقية التي يمكن أن تحكم النظام العالمي، ولكني أظن أن القوى التي تتصارع داخل هذا النظام لا بد أن تنتهي إلى ضرورة إعادة تأسيس هذا النظام بناءً على معايير أخلاقية مُلزِمة، تمامًا مثلما أدرك البشر ضرورة تأسيس الدولة والمجتمع المدني من أجل السيطرة على حالة عدوان الأفراد بعضهم على بعض.

• سعيد توفيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة مؤلف كتاب "ماهية اللغة وفلسفة التأويل".