الجمعيات المهنية قوة التطوير

04 نوفمبر 2023
04 نوفمبر 2023

تتعاظم أهمية المجتمع المدني في تنمية المجتمعات كلما اتجهت الدول نحو بناء مجتمع المؤسسات، الذي يجعل من التنمية المستدامة هدفا أصيلا للتنمية المعرفية والاقتصادية المتنوِّعة، ولهذا فإن تطوير منظومة مؤسسات المجتمع المدني، سيُسهم في فاعلية دورها وإسهامها في التنمية الوطنية، وقدرتها على بناء الثقة بينها وبين منتسبيها من ناحية، ومؤسسات الدولة من ناحية أخرى.

ولأن المجتمع المدني تمثله تلك الاتحادات والجمعيات الأهلية والمهنية التي تشكِّل جوهر العمل التطوعي في الدولة، فإن أهمية دورها التنموي يكمن في قدرتها على بناء علاقات تبادلية تنطلق من أهداف الرؤية الوطنية وتسعى إلى الإسهام الفاعل في تحقيقها، وذلك لن يتم سوى عن طريق وعي تلك المؤسسات بهذا الدور الفاعل، وبناء قدرات منتسبيها وتمكينهم، وإيجاد وسائل تطوير تضمن فاعلية ذلك الدور الحيوي، الذي يركِّز على الممارسات الإيجابية وتفعيل الحوكمة بما يضمن استدامة الموارد.

إن جمعيات المجتمع المدني بإمكاناتها وقدراتها البشرية والمجتمعية، تمثِّل أحد أهم أقطاب التنمية في الدولة، ولهذا فإن لها قوة تأثير في المجتمع على المستوى البنائي القادر على التفاعل والمشاركة الإيجابية بدءا من التخطيط في صياغة الرؤى والأهداف، وليس انتهاءً بالتنفيذ والتحقيق، فهذه المؤسسات قادرة على التوجيه والتوعية والتأسيس والتمكين بما يُعزِّز بناء القدرات الوطنية الشابة ودعم توجهات الدولة.

ومن بين تلك المؤسسات تأتي الجمعيات الأهلية لتشكِّل قوة مجتمعية، لما تمثِّله من أساس تنموي ليس لمجتمع المؤسسات وحسب، بل أيضا لمجتمع المعرفة الذي تطمح إليه الدولة؛ فهي من المؤسسات التي تعمل وفق مقتضيات مهنية، تجمع بين دفتيها متخصصين كل في مجاله، فهي مجتمعات تخصصية وبيئة تعزِّز الشراكة الفاعلة بين المجتمع والمؤسسات المعنية وفق محددات ذات طابع محلي وإقليمي بل وعالمي. إنها مؤسسات تشكِّل مؤشرا من مؤشرات نمو المجتمع وتطوره العلمي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي.

ولهذا فإن الجمعيات المهنية تقوم بدور فاعل في ضمان وجود أنماط من الممارسات العملية الإيجابية الفاعلة، وإنتاج شراكات قادرة على تطوير منظومة تلك الممارسات، إضافة إلى دورها الفاعل في تعزيز الخبرات وتحسين المعايير المحلية، وتقديم الاستشارات والدراسات باعتبارها بيوت خبرة، كما أن دورها في بناء القدرات الوطنية يمثِّل أساسا من أُسس عملها المهني، لذا فإن إمكاناتها تتمحور بناء على تلك القدرات المهنية والبشرية التي تعكس التنمية الإنسانية وتطورها في الدولة، وما يمكن أن تقدمه خدمة لوطنها.

إن جمعيات المجتمع المدني المهنية تمثل مرتكزا مهما في المجتمع، ولهذا فإن دورها التنموي يزداد أهمية في ظل التغيرات والتطورات التي تشهدها الدولة، وآفاق تطلعاتها وأهدافها المستقبلية؛ فالدولة مقبلة على مرحلة مهمة من حيث سرعة التطوُّر وبناء القدرات الوطنية وتمكينها، وبالتالي تحتاج إلى دعم من كافة المؤسسات خاصة المؤسسات المدنية التي تشكِّل أحد أذرع التطوير والتنمية، ولهذا فإن هذه المؤسسات تحتاج إلى تطوير منظومتها الإدارية والعملية حتى تُسهم في ذلك التطوير، بحيث تكون أكثر انفتاحا وأكثر قدرة على التشارك مع المجتمع والتفاعل مع أولوياته.

ولكي تقوم تلك المؤسسات بدورها التنموي الفاعل عليها أن تعمل باعتبارها مختبرات تنموية تمكِّن منتسبيها من مهارات الإبداع والابتكار القائمة على الخطط التنفيذية الواضحة، واستراتيجيات تدريب وإشراك المجتمع المهني من خلال العلاقات المهنية مع المؤسسات المستفيدة وذات العلاقة، إضافة إلى الاستعانة بالخبراء، وتفعيل العضويات الشرفية، وكذلك ترسيخ ثقافة تدوير مجالس الإدارة لضمان فاعليتها، ولتأسيس منظومة إدارية ذات معايير تفويضية وكفاءة قادرة على الحوار والتشاور، وبيئة جاذبة للشباب والعمل الجماعي المشترك. تحاول دراسة (واقع الجمعيات الأهلية وتعزيز دورها في المجتمع العماني)، التي نفذتها وزارة التنمية الاجتماعية وجامعة السلطان قابوس وجمعية الاجتماعيين العمانية عام 2022، مقاربة التحديات والصعوبات التي تواجه مؤسسات المجتمع المدني في عُمان، وما تحتاجه لتقوم بدورها التنموي الفاعل في المرحلة المقبلة، وقد حدَّدت مجموعة من تلك التحديات على المستويين الداخلي والخارجي؛ حيث تجد أن من بين التحديات الداخلية تلك المرتبطة بمدى وضوح رسالة الجمعيات، ورؤيتها وبنيتها التنظيمية؛ وهي تحديات تنطلق من عدم وضوح أو حتى غياب الرؤى المستقبلية وضعف الاستراتيجيات التخطيطية والتنظيمية المرنة، إضافة إلى إشكاليات توفُّر الموارد واستدامتها.

وقد كشفت الدراسة كذلك عن تلك التحديات الخاصة بالتنظيم الإداري وتعقيد الإجراءات التي تزيد من الفجوة بين الموارد والإمكانات والعمل النوعي المتخصص الذي تطالب به تلك المؤسسات؛ إذ تفتقر الجمعيات ـ حسب ما ورد في الدراسة ـ إلى (القدرة التقنية والتنظيمية)، التي تمكِّنها من القيام بمهامها كما هو مأمول، مما ينعكس على ضعف إدارة التواصل مع الأعضاء، والتنسيق الداخلي، كما أن التحولات الاقتصادية والاجتماعية لها أثر بالغ في فاعلية تلك المؤسسات وقدرتها على أداء عملها.

وعلى الرغم من أن الدراسة شملت جمعيات المجتمع المدني كلها (الجمعيات والفرق الخيرية والأندية الاجتماعية، وجمعيات المرأة العمانية، والجمعيات المهنية وغيرها)، إلاَّ أنني سأركِّز هنا الحديث عن نتائج هذه الدراسة فيما يتعلَّق بالجمعيات المهنية، لما تمثِّله من خصوصية في الأثر التنموي المتخصص في كافة القطاعات، مع الإيمان بأهمية هذه المؤسسات بأنواعها وأشكالها المختلفة؛ فقد كشفت الدراسة على مستوى إدارة الجمعيات المهنية (استمرارية شخصية الرئيس لثلاث فترات متتالية مما يجعلها سمة غالبة لدى بعض المؤسسات الأهلية دون غيرها...)، وقد أرجأت الدراسة ذلك إلى (ضعف ممارسة مبدأ الديموقراطية) في تلك المؤسسات، الأمر الذي سينعكس على مصداقيتها وثقة منتسبيها، وبالتالي الحِراك الوطني الذي تقدمه، إضافة إلى تفاعلها المجتمعي.

كما كشفت أيضا أن رئاسة مجالس إدارة الجمعيات المهنية حكرا على الذكور بنسبة 100٪، إضافة إلى أن 50٪ من رؤساء مجالس الإدارة هم ممن تزيد أعمارهم عن (50 ـ 60 +)، وهم ممن يتميزون بمستوى تعليمي مرتفع؛ حيث حصل حملة مؤهل الدكتوراه على تمثيل بنسبة تكرارية بلغت (40.9٪) من إجمالي الجمعيات المهنية، ثم حملة مؤهل الماجستير بنسبة تمثيل بلغت (27.5٪)؛ فإذا كان المستوى التعليمي مسوغًا بسبب تخصصية هذه الجمعيات، فإن الدراسة تشير صراحة إلى استبعاد الشباب عن إدارات تلك المؤسسات خاصة على مستوى الرئاسة بسبب احتكار مجموعة من منتسبيها للرئاسة، وإشكالية التكتلات التي قد تفقد المؤسسة مصداقيتها الديموقراطية الحرة، ولعل تلك الأسباب نفسها ما جعلت المرأة المتخصصة في مجالات تلك المؤسسات بعيدة عن رئاستها طوال مدة إنشائها.

وعلى الرغم من أن الدراسة لا تقدم تحديدا للتحديات المالية التي تواجهها الجمعيات المهنية؛ إلاَّ أننا نعلم أن الكثير منها لا يمتلك حتى مقرا، ولا القدرة على الاستقرار المالي؛ إذ تعتمد جلها على اشتراكات الأعضاء، ولا تستطيع مواكبة المتغيرات الطارئة، ولعل الأمر هنا يتعلَّق بقدرة الإدارات على تأسيس قاعدة علاقات مجتمعية ومؤسسية تمكنها من عقد شراكات فاعلة ومساهمات تستطيع بها تمويل مناشطها وبرامجها، وتضمن لها استدامة مالية، وبالتالي الاستقرار الذي يمكِّنها من القيام بدورها التنموي.

تكمن أهمية هذه الدراسة التي سبرت واقع مؤسسات المجتمع المدني بشكل عام في عُمان، في تلك التوصيات التشريعية والتنظيمية والاستراتيجية، وكذلك التوصيات المتعلقة بنتائج خدمة المجتمع ونشر ثقافة التطوُّع، إضافة إلى توصيات خاصة بالموارد المالية ومصادر التمويل. إن هذه التوصيات تشكِّل حلولا للعديد من التحديات التي تعاني منها الجمعيات الأهلية عموما والجمعيات المهنية خصوصا؛ ذلك لأن الأخيرة تتميَّز بالخصوصية وإمكاناتها التنموية الفاعلة في القطاعات كلها، ولهذا فإن إيجاد وسائل تضمن مصداقيتها وثقة منتسبيها بالإدارات وقدرتها على التطوير والتغيير يمثِّل أحد أهم أهداف تلك التوصيات.

لذا فإن التأكيد على تنفيذ تلك التوصيات، وإيجاد وسائل لتطوير منظومة العمل في تلك المؤسسات هو ما نحتاجه عاجلا غير آجل، لكي تستطيع الجمعيات المهنية القيام بدورها المأمول، وأن تشكِّل مختبرات علم ومعرفة وتنمية للمهارات والإبداع والابتكار للشباب، لأنهم أمل المجتمع وطموحه التنموي.

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة