الجمال والقداسة صنوان

25 يناير 2022
25 يناير 2022

العلاقة بين الجميل والمقدس تستدعي في أذهاننا العلاقة بين الفن والدين، باعتبار أن الفن هو موطن التعبير الإنساني عن الجمال، بينما الدين هو موطن التعبير الأساسي عن المقدس. ولقد تناولت هذه العلاقة من زوايا مختلفة عديدة في كثير من كتاباتي، ولكني أريد هنا الكشف عما هو مربك وشائك في هذه العلاقة، خاصةً بالنسبة إلى الذهنية العربية المعاصرة. ذلك أن قيمة الجمال يُنظَر إليها عادةً باعتبارها ترفًا، ومن ثم يُنظَر إليها باعتبارها قيمة ثانوية بالقياس إلى غيرها من القيم، مثل: قيمة العلم، والقيم الدينية، والقيم الأخلاقية، وذلك أمر عجيب يدعو إلى الدهشة والتساؤل!

السؤال هو: هل الجمال قيمة ثانوية حقًّا؟! الحقيقة أن هذا التساؤل غافل عن أن قيمة الجمال لها أهميتها في نسق القيم، وهي قيمة لا يعتد بها إلا في مراحل تألق الحضارات بعد أن اكتملت إنجازاتها الأخرى في مجالات العلم وسُبُل العيش والاستقرار. لا يسعى الإنسان إلى إدراك قيمة الجمال ويطور فهمه لها في فنه وإبداعه إلا بعد أن يفرغ من تلبية حاجاته الضرورية التي تفي بها كل حضارة ناهضة. ولا يعني هذا على الإطلاق أنها قيمة ثانوية تابعة أو مجرد تَرَف، وإنما يعني أنها قيمة عليا لا يمكن أن تتحقق إلا بعد أن تتأسس القيم الأخرى الأدنى منها والأيسر منالًا؛ فالجمال هو قيمة عليا تأتي كشاهد على وصول التحضر إلى غايته ومبتغاه؛ ولا تكتمل هذه الغاية إلا بحضور الفلسفة في قمة المشهد باعتبارها شاهدًا على انتقال الوجود الإنساني من إشباع حاجات حضوره الفيزيقي إلى إشباع حضوره الوجداني، وفي النهاية حضوره الفكري على مستوى العقل التأملي.

***

ومع ذلك، فلا يزال وعي الشخص العادي يؤمن بأن الجمال قيمة دنيا بالقياس إلى قيمة القداسة. وهنا يمكن أن نطرح عليه السؤال التالي: هل يمكن أن ندرك المقس من دون الجميل؟! ولنضع السؤال بطريقة أخرى تقريبية: هل يمكن أن ندرك الدين بمنأى عن الفن والتصوير الجمالي؟! الواقع أن التاريخ يبين لنا أن الوعي الديني كما تبدى في الحضارات الأولى لم يكن ينطوي على أي تمييز بين الدين والفن أو بين القداسة والتعبير الجمالي: ففي الحضارة المصرية القديمة نجد الديني أو المقدس حاضرًا من خلال صور رمزية وأساطير، حفظها وجسدها فن النحت وفن التصوير الجداري في هذه الحضارة. وفي الحضارة الهندية القديمة نجد أن التعاليم الدينية المُسمَّاة "الأوبانيشاد"، هي تعاليم دينية تصلنا من خلال أشعار! كما أن أشعار لا-وتسي تتضمن التعاليم الدينية التي يدعو إليها، بحيث لا نستطيع أن نميز هنا بين ما ديني وفني جمالي أو حتى اجتماعي يتعلق بشؤون الدنيا في ذلك العصر. ذلك أن المقدس كان يعبر عن نفسه حتى في أمور الحياة الدنيوية التي نسميها الآن بالأمور الاجتماعية بالمعنى الشامل. أجمل ما في المقدس أنه يبدو في أعيننا جميلًا، حتى إن تبدى لنا من خلال الدنيوي، لا الديني. ولكن هذا الكلام يظل كلامًا عامًا، وربما يحتاج إلى تطبيق عملي يوضح فحواه ومغزاه.

***

في عصرنا الراهن يعاني الوعي الديني في العالم الإسلامي- بدرجات متفاوتة- حالة من الأصولية الدينية المتطرفة التي تُرجِع الدنيوي إلى الديني، وتحتكم إلى الديني في كل شأن من شؤون الدنيا (رغم أن ما أكد عليه نبي الإسلام الكريم بقوله: "أنتم أعلم بشؤون دنياكم"، هو قول يجافي هذه الروح المتفشية في عصرنا). وقد اقترن بهذه الروح الدينية حالة نفور من كل ما يتعلق بالجمال والفن باعتبار أن الفن هو رجس من عمل الشيطان أو- على الأقل- حالة من التَرَف التي لا تليق بالروح الدينية التي تتميز بالجدية والتقشف. والحقيقة أن هذا التصور يجافي حالة الطبيعة البشرية نفسها التي تتكامل فيها قوى الحس مع الوجدان والعقل؛ بل إنه تصور يجافي روح الدين نفسه. ولهذا السبب ذاته، فإن النابهين من الأصوليين المتطرفين أنفسهم لم يكن بمقدورهم إنكار جماليات النص الديني. ويكفي شاهدًا على ذلك أن سيد قطب الذي خرجت من بنات أفكاره الجماعات الدينية، هو نفسه الذي كتب كتابًا عن "التصوير الفني في القرآن الكريم". هذا التصوير حاضر بقوة في موسيقا اللغة المعجزة، وفي التصوير الفني البلاغي لقصص الأولين الذي لا تستطيع أن تداينه أية رواية أو قصة بشرية.

ولماذا نذهب بعيدًا: لنتأمل أصوات "عباقرة التلاوة" التي يمكن أن نسترجعها بهذا المسمَّى ذاته على صفحات الإنترنت. لكل منهم صوت مخصوص، له جمالياته الخاصة في الإدغام والمد والتنغيم، وفي الوقفات والسكنات، حتى إنك يمكن أن تتعرف عليهم من أول تلاوة تسمعها لآية من آيات القرآن. ويمكنك أن تتعرف على هذا الجمال، ليس فقط في تلاوة القرآن، بل حتى في إلقاء أو رفع الآذان. ولنتأمل من بعد ذلك في عصرنا الراهن القراءات السائدة التي يغلب عليها الطابع الأصولي الذي يلتزم بالقواعد من دون اعتداد بأية جماليات تتعلق بفن القراءة ذاته؛ ولنتأمل رفع الآذان نفسه في عصرنا هذا، حيث نجد أصحاب الأصوات الفظة الغليظة يتبارون في رفع الأذان من خلال مكبرات صوتية تشوش بعضها على بعض من خلال أصوات رديئة تضيع بين تردداتها الأصوات الحسنة الجميلة التي تكاد تتوارى في عالمنا.

وإذا كان الجميل حاضرًا بقوة في النص الديني المقدس وفي الشعائر والطقوس والتعاليم الدينية المعبِّر عنها بلغة الفن والجمال؛ فبأي أمارة إذن يحق لنا أن نستخف بقيمة الجمال، بدلًا من أن نعتبرها قيمًا عليا تجسد الصلة الوثيقة بين الديني والدنيوي، وبين الدين والحياة ذاتها.

• سعيد توفيق كاتب مصري وأستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة