الجغرافيا السياسية.. صناعة الهويات
يتم الحديث عن الهوية بصورة مستمرة؛ وهو حديث ذو شجون، وهذا يعني أن الهوية هم موضوعي يشغل الفرد؛ كما يشغل الجماعة، ويشغل الدولة؛ كما يشغل العالم، ولا يمكن أن يتوارى الاهتمام بالهوية في مجتمعات الفقر، ويزهر في مجتمعات الرفاه، أو العكس، فكل مشغول بهذا الطائر الأسطوري "الهوية" وأسطوري لأن الهوية قديمة/ حديثة، والحديث عنها قديم متجدد، فالهوية جامعة، وقد تلعب الدور الآخر في التفرقة والتشتت، وبقدر جامعيتها تعزف على وترها الأنظمة السياسية، والأنظمة الاجتماعية، والمشاريع الثقافية، وتظل قلق البرامج الاستعمارية ومقصدها، فهي القبيلة، وهي الدين، وهي المذاهب، وهي الإثنية، وهي الثقافة، وهي القيم، وهي الأجناس، وهي الأعراق، وهي الجغرافيا السياسية، وهي القطرية، وهي الإقليم، وقد تنحصر على مستوى القرية الصغيرة، فالمهم أن تكون هناك هوية ما يعاد إليها تراتبيات الموضوعات، والمشروعات، والأحكام، والتقييم، والتصويب، وكل ما من شأنه أن يحدث التوازنات والتصادمات في المجتمع.
ويمكن القول إن الهوية شكلت طموحا قوميا منذ بدايات النشأة الأولى لعمر البشرية – وشخصيا هنا؛ في هذه المناقشة؛ لا أستطيع الجزم بهذا الإجماع، إلا أنه يمكن قراءته عبر هذه الالتفاف القوي حول الهوية، أيا كان عناوينها، أو مشاريعها، وقد أرخت الكهوف والمغارات الكثير لأشكال الهوية من فنون، وملابس، وصور الحروب والمعارك، كل بحسب المكان الذي يعيش فيه، فهذا كله لم يأت من فراغ، فلا بد أن يكون هناك تسلسل منطقي لمنشأ الهويات، وأن هناك تراكم معرفي مستمر؛ يشهد الكثير من التعديلات (حذف وإضافة) وفق سيناريوهات الحياة التي يعيشها الناس في كل عصر، ونحن شهود عصر على جزء من ذلك بما نقوم به، وبما نؤمن به، وبما نقتنع به لكل أشكال الهويات، ومعنى ذلك أن هذا التوارث هو الذي يؤكد أن الهوية مشروع إنساني لا يمكن أن يتوقف عند مرحلة معينة من مراحل الحياة، حيث يظل الطموح مستمرا لإيجاد هوية جامعة لأي تجمع بشري كان، ولأي محدد جغرافي كان، ولأي عرق بشري كان، ولأي دين كان، ولأي مذهب كان، وأي عقيدة كانت.
وعلى الرغم من هذا التسلسل التاريخي لعمر الهويات؛ فإنه حتى الآن، والعالم كله يدخل من أكبر بوابات التقدم العلمي المتمثل في "التكنولوجيا" بإنتاجاتها المختلفة لم يستطع أن يجمع على قبول أو اعتماد هوية تحظى بقبول جمعي دون مناقشة أو اعتراض، والسبب في ذلك هو تنامي الهويات الصغيرة أو "الهويات القاتلة" كما أطلق عليها الكاتب والروائي اللبناني أمين معلوف، حتى مع سعي العالم كله على استحداث أنظمة دولية جامعة، والمتمثلة في مؤسسات الأمم المتحدة، لم يلاحظ حتى الآن على تقدم الفهم الإنساني في الإجماع على هوية جامعة، وذلك انعكاسا للعمل الذي تقوم به هذه المؤسسات، على مستوى العالم؛ حتى الهوية الإنسانية التي عليها منشأ البشرية؛ ليست بذات التوافق بين أروقة الأمم المتحدة، حيث درجات التمايز واضحة في التعامل مع مختلف الأقوام الإنسانية على مستوى دول العالم، ولو قاربنا الفهم قليلا لوجدنا حتى الإنسان الفرد؛ على مستوى الجماعة الصغيرة، أو على مستوى القرية، نجده لا يمكن أن ينصهر أو يتماهى في هوية ما غير هويته التي يؤمن بها، ويحرص عليها حتى لا يذوب في محيط العامة، ويفقد بذلك شخصيته، وهذا الانتماء نحو هويته.
تشكل اللغة ـ عادة هوية جامعة، تتجاوز أبعاد الهويات الفرعية، هذا عند قياسها على مستوى الوطن الواحد ـ مع الأخذ في الاعتبار ـ أن الوطن الواحد أيضا يضم؛ في أغلب الأحيان أكثر من لغة؛ ولا أعني هنا اللهجات؛ ولكن مع ذلك تظل هناك لغة جامعة للغالبية العظمى من أبناء الوطن الواحد، ولذلك ترقى اللغة لأن تكون هوية جامعة؛ مهما تنازعتها لغات أخرى لأقليات محدودة تعيش في وطن؛ هو وطن بديل بالنسبة لها، ولذلك ينظر إلى هذه اللغات الأخرى غير لغة الأم على أنها لغات مسافرة وغير مستقرة، يزيد عدد مستخدميها في أوقات محددة، وينقصون في أوقات وظروف محددة أيضا، وهي بذلك لا تؤسس هويات لمنتميها في الوطن البديل، ومع ذلك؛ فحتى اللغة يمكن أن لا تلعب هذا الدور، في بعض الأحيان، وإلا عدت اللغة الانجليزية هوية معظم المتكلمين بها في جميع دول العام، والمعلومات تشير إلى أنها تتصدر جميع اللغات من حيث نسبة المتكلمين بها والتي تصل إلى "( 25%) وعددهم يتجاوز (1.8) مليار نسمة، وهي اللغة الرسمية للعديد من البلدان، والمتحدثون بها ينحدرون من جميع أنحاء العالم" بحسب: (https://arabic.rt.com/news/786982). بينما تأتي اللغة العربية في المرتبة الرابعة ممثلة ما نسبته (6.6%) من المتحدثين بها على مستوى العالم؛ وفق نفس المصدر.
والهويات "القاتلة" وفق تسمية معلوف؛ كثيرا ما تتصادم مع الأنظمة السياسية، ولا تكون موضع ترحيب، لأنها هويات تفرق أكثر من أنها تلم الشمل، وأنها تنتصر للفردية؛ سواء أكانت فردية "فرد" أو فردية "مجموع" لهم صوت واحد، ويكون ذلك على حساب المصلحة العامة، ففي الوقت الذي يسعى فيه النظام السياسي إلى لملمة أركان المجتمع المتعددة، تأتي الهويات القاتلة لتعمل خلخلة في هذه الوحدة، وتنتصر للخاص على حساب المجموع، وهذا؛ بلا شك؛ يقوض اللحمة الوطنية أو الاجتماعية، ويعمل على زعزعة أركان الأمن القومي للوطن الواحد، وغالبا أن الهويات القاتلة تنتعش في الأوطان غير المستقرة سياسيا، أو اقتصاديا، أو حتى ثقافيا، إذا قيس مقومات الدين، والقيم، والعادات تحت بند الثقافة، وهذه من المواقف الحساسة التي تعيشها الأنظمة السياسية مع مكونات المجتمع الذي تديره، وتشرف على تموضعاته المختلفة، بالإضافة أن الهويات كثيرا ما تنتصر للشعبوية، وللفئوية؛ أكثر؛ وقد يكون الصالح العام في آخر أجندة اهتماماتها، وهذه مسألة مهمة.
هناك قراءة أخرى ترى أن الهويات من الموضوعات المهمة التي يعزف على وترها الاستعمار، وهو نهج غير منكور إطلاقا في هذا الجانب، فاشتعال الهويات في أي مجتمع هو تصادم مباشر بين النظام السياسي وهذه الهويات "القاتلة" ولذلك تسعى الأنظمة الرشيدة إلى إشاعة نوع من التوافقات المجتمعية، وذوبان هوياتها في الهوية الجامعة للوطن ككل، وهي الهوية القومية؛ بتعريف آخر؛ ويأتي مفهوم المواطنة في مقدمة كل الهويات، فهي الجامعة للكل، وهي القادرة على استيعاب كل الهويات الفرعية، وهي القادرة على ذوبانها وانصهارها أيضا، ولكن هذه الصورة تحتاج إلى كثير من الجهد المنظم الذي يقود إلى هذه النتيجة المهمة جدا، ومن عناصرها المهمة هي شيوع العدالة الاجتماعية، وإعطاء القانون الحق الكامل لتحقيق العدالة الاجتماعية، كما يأتي دور السلطة التشريعية ضمن اللاعب المهم في هذا الجانب، وذلك من خلال توظيف اختصاصاتها للصالح العام، وعدم الانجرار لـ "الفئوية" في نقاط تماسها مع السلطة التنفيذية.
من ضمن ما يطرح من أسئلة في هذا الجانب: ما الذي يمنع من تشكل هوية عالمية؟ ولما لم يستطع العالم أن يتوحد على هوية واحدة من خلال منظماته الدولية؛ الممثلة في منظمات الأمم المتحدة؟ ولا شك أن لا جواب محدد لهذه التساؤلات فالمسألة على درجة كبيرة من التعقيد، وليس من اليسير أن تتوحد الهويات بجرة قلم، أو بقرار أممي، لأن المسألة مرتبطة بقناعات فردية؛ أولا؛ وبمصالح جماعية؛ ثانيا؛ وبتنوع غير من متناهي من الهويات، ومن التموضوعات المصاحبة لهذه الهويات؛ ثالثا؛ ومنظمات الأمم المتحدة؛ كما هو واضح تخضع لأجندات دولية، ولمصالح متصادمة، ومكرسة لدول دون أخرى، بينما مشروع الهويات يحتاج إلى كثير من التوافقات الإنسانية أولا؛ والصحيح أن منهج السياسة تفرق الهويات، ولا تجمعها، لأن في تجمعها خطر على مصالح السياسية الذاتية، فوق أن من يعمل في هذه المنظمات شعوبا وقبائل، وديانات، ومذاهب، وأعراق لا أول لها ولا آخر، وبالتالي يصبح من شبه المستحيل أن يجتمع كل هذه السلسلة البشرية على توافق ما لهوية ما، ولذلك فشلت القُطْرِيَّةُ – وهي مقياس مهم - في تحقيق الهوية الجامعة، كما تفشل مكونات المجتمع في أي محدد جغرافي من الإجماع على هوية موحدة، حيث تنتصر؛ هنا؛ الهويات الفرعية أكثر من الجماعية، ومرد ذلك إلى قوة الهوية المتوارثة "الأم" التي تحافظ على عدم اعتناق هوية بديلة، إلا في ظروف غير طبيعية، وبعد توالي أجيال، وليس ذلك متاح للجيل الأول ولا الثاني، ولربما تبدأ الهوية الأم تتزعزع مكانتها عند الجيل الثالث الذي يتعارك مع مجموعة من الهويات في الوطن البديل، فيستقر؛ أخيرا؛ على هوية ما.
