الجذور المفاهيمية لأزمة ديون الجنوب العالمي

06 يناير 2024
06 يناير 2024

تنبع أزمة الديون المتزايدة الانتشار في الجنوب العالمي إلى حد كبير من نظام متعدد الأطراف معيب. لكنها تعكس أيضا أوجه القصور التي تعيب الأطر التحليلية والسياسية السائدة -وعلى وجه التحديد افتراضاتها حول طبيعة المال- والإمكانيات الاقتصادية المتاحة للحكومات الـمُـصْـدِرة للعملات، والأسباب الكامنة وراء مديونية الدول النامية الخارجية.

من خلال عدسة النظرية النقدية الحديثة، تصبح القيود التي يفرضها الفِكر الاقتصادي السائد عند تطبيقها على أزمات الديون السيادية أشد وضوحا. الفكرة الأساسية وراء النظرية النقدية الحديثة هي أن الحكومات التي تسيطر على عملاتها الورقية، على عكس الأسر أو الشركات الخاصة، من غير الممكن أن تتخلف عن السداد (على افتراض أن ديونها مقومة بعملتها الخاصة). وبما أنها ليست مقيدة نقديا، فبوسعها أن تنفق لتحقيق أهدافها. يتمثل القيد الرئيسي الذي يعوقها في توافر القدرة الإنتاجية، والتي تحدد خطر التضخم.

تشرح النظرية النقدية الحديثة لماذا لا تعاني البلدان الأكثر مديونية، بالقيمة المطلقة والنسبية، من ضائقة. لنضع في الاعتبار هنا أن نسبة الدين السيادي إلى الناتج المحلي الإجمالي في اليابان كانت 254% في العام الماضي، في حين بلغت النسبة 144% في الولايات المتحدة، و113% في كندا، و104% في المملكة المتحدة. ومع ذلك، لا تشهد أي من هذه البلدان أزمة ديون سيادية. في المقابل، في عام 2020، كانت نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في الأرجنتين والإكوادور وزامبيا أقل كثيرا عندما عجزت عن سداد التزاماتها الخارجية.

الفارق الرئيسي هنا هو أن اليابان والولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة تتمتع بالسيادة النقدية؛ لأن الدين العام في هذه البلدان مقوم بعملاتها الوطنية، في حين تحتفظ بنوكها المركزية ببعض السيطرة على أسعار الفائدة المطبقة على هذا الدين. وأغلب حكومات الجنوب العالمي معرضة لخطر الإفلاس؛ لأنها اقترضت بعملات أجنبية.

تعني النظرية النقدية الحديثة ضمنا أنه في حال رغبت الدول الغنية في تخفيف أعباء الديون بشكل كبير عن دول الجنوب العالمي، فإن التحديات الرئيسية سوف تتمثل في التنسيق بين مختلف الدائنين والمدينين، فضلا عن القوى الفاعلة الأخرى ذات الصلة والمساءلة، وليس القدرة على تحمل التكاليف. ولأن هذه البلدان من غير الممكن أن ينـفَـد مخزونها من العملات التي تصدرها، فلا توجد قيود مالية تحول دون الإلغاء الكلي أو الجزئي لأرصدة الديون الخارجية العامة والمضمونة حكوميا المستحقة على 131 دولة منخفضة ومتوسطة الدخل (باستثناء الصين وروسيا والهند). بلغ مجموع هذا الدين 2.6 تريليون دولار في عام 2022 وهذا أقل من دين ألمانيا العام.

ولكن لماذا تقترض بلدان الجنوب العالمي التي تعاني حاليا من ضائقة الديون أو المعرضة لخطرها بالعملات الأجنبية في المقام الأول؟ الجواب المعتاد من قِبَل خبراء الاقتصاد هو أن هذه البلدان سوف تفتقر لولا ذلك إلى «المال» و«المدخرات». يستند هذا الرأي إلى فهم خاطئ لطبيعة النقود. إن الحكومات المصدرة للعملة من غير الممكن أن ينفد ما لديها من مخزون من أموالها الوطنية. علاوة على ذلك، وكما أظهر بنك إنجلترا، فإن البنوك ليست وسيطا بين المدخرين وطالبي القروض؛ بل إنها تعمل بدلا من ذلك على خلق قوة شرائية جديدة في كل مرة تقدم فيها قرضا.

يقودنا هذا إلى ملاحظة مهمة أخرى مستمدة من النظرية النقدية الحديثة بما أن الأموال ليست نادرة، فإن أي شيء ممكن فنيا وماديا على المستوى الوطني يمكن تمويله بالعملة الوطنية. ولا تحتاج البلدان النامية إلى إصدار ديون بالعملات الأجنبية لتمويل المشاريع التي تتطلب موارد متاحة محليا مثل العمالة، والأراضي، والمواد الخام، والمعدات، والتكنولوجيات.

عندما تكون الموارد المطلوبة غير متاحة محليا ولا يمكن شراؤها إلا بالعملات الأجنبية، فقد تضطر البلدان النامية إلى تحمل عبء الديون المقومة بالدولار. بوسعنا أن نتصور كيف تضطر البلدان التي تفتقر إلى الموارد أو المعرضة للمخاطر المناخية إلى مثل هذا الاختيار.

لكن هذا يتجاهل حقيقة مفادها أن دول الجنوب العالمي غالبا ما تكسب دخلا كبيرا من الصادرات. المشكلة هي أن نسبة كبيرة من هذا الدخل تُـحَـوَّل مرة أخرى إلى مستثمرين أجانب -الذين يستفيد كثيرون منهم من بنية ضريبية عالمية غير عادلة- في هيئة إيرادات أو أرباح. هذا بالإضافة إلى الممارسات الاحتيالية التي تؤدي إلى تدفقات مالية غير مشروعة.

خلال الفترة من عام 2000 إلى عام 2018 -على سبيل المثال- عانت بلدان إفريقية من مصاعب مالية بسبب تحويلات الإيرادات من قبل المستثمرين الأجانب، وإعادة الأرباح من قبل الشركات التابعة إلى الشركات الأم، والتدفقات المالية غير المشروعة أعظم كثيرا من المصاعب التي واجهتها بخدمة ديونها الخارجية. فقد أصدرت ديونا بالعملات الأجنبية كانت تدفع أسعار فائدة مرتفعة، جزئيا لسد الفجوة التي خلقها رعايا أجانب استولوا -بشكل قانوني وغير قانوني- على مكاسب هائلة بالدولار.

لنتأمل هنا حالة زامبيا، الدولة المنتجة للنحاس، التي خسرت نحو 10.6 مليار دولار في هيئة تدفقات مالية غير مشروعة بين عامي 1970 و1996 (355% من ناتجها المحلي الإجمالي في عام 1996)، و8.8 مليار دولار بين عامي 2001 و2010، فضلا عن 12.5 مليار دولار بين عامي 2013 و2015. كان حجم الدين الخارجي العام والمضمون من الحكومة الزامبية 1.2 مليار دولار في عام 2010، ليرتفع إلى 12.5 مليار دولار بحلول عام 2021.

لو كانت حكومة زامبيا تتمتع بقدرة أفضل على فرض الرقابة المالية والفنية على قطاع التصدير لديها، فإنها كانت لتتمكن من جمع احتياطيات كافية من الدولارات لتعزيز الاكتفاء الذاتي من الغذاء والطاقة وتمويل الاستثمار في البنية الأساسية وغير ذلك من المنافع العامة التي تتطلب استيراد القدرة الإنتاجية الأجنبية. وما كانت لتضطر إلى تحمل هذا القدر الهائل من الديون بالعملات الأجنبية. ويصدق ذات القول على بلدان إفريقية أخرى غنية بالموارد.

في عالم عادل، كانت البلدان الخاضعة لاتفاقيات ضريبية غير متماثلة وسرقة الموارد لـتُـعَـوَّضَ بشكل عادل، بدلا من أن تُـسـحَـق بفِعل سياسات التقشف. وإذا لم يحدث ذلك، فإن إلغاء الديون الخارجية من شأنه أن يساعد البلدان النامية على الاستثمار في القدرة على التكيف مع تغير المناخ وتحسين صحة ورفاهة سكانها. وكما زعم عدد كبير من صناع السياسات وأهل الاقتصاد والحركات الاجتماعية، فإن هذا يشكل ضرورة مُـلِـحة. ولكن حتى مثل هذه الخطوة الجريئة لن تكون كافية لمعالجة الأسباب الجذرية وراء أزمات الديون المتكررة في الجنوب العالمي. بل يتطلب العلاج وقف النزيف المالي الذي تُـحدِثه الشركات المتعددة الجنسيات وتعزيز استراتيجية التنمية الاقتصادية التي تستفيد بشكل كامل من الموارد التي تستطيع كل دولة الحصول عليها بعملتها الوطنية.

ندونغو سامبا سيلا، رئيس البحوث والسياسات لمنطقة إفريقيا في شركاء اقتصاديات التنمية الدولية، هو مستشار فني سابق لرئاسة جمهورية السنغال.

خدمة بروجيكت سنديكيت