الجامعات في بلدان العالم الغني وتعزيز النمو الاقتصادي

28 مارس 2024
ترجمة ـ قاسم مكي
28 مارس 2024

ازدهرت أبحاث الجامعات في العقود الأخيرة. وحاليا توظِّف مؤسسات التعليم العالي حول العالم حوالي 15 مليون باحث مقارنة بأربعة ملايين باحث في عام 1980. ينتج هؤلاء العاملون خمسة أضعاف الأوراق البحثية في كل عام. كما زادت الحكومات الإنفاق على القطاع.

ارتكز هذا التوسع السريع جزئيا على مبادئ اقتصادية سليمة. فالجامعات يفترض أنها تنتج اكتشافات فكرية وعلمية يمكن توظيفها بواسطة الشركات والحكومات وعموم الناس. مثل هذه الأفكار (المنتَجة) تطرَح في المجال العام وتكون متاحة للجميع. لذلك من الناحية النظرية يلزم أن تكون الجامعات مصدرا ممتازا لنمو الإنتاجية.

لكن عمليا تزامن التوسع الكبير في التعليم العالي مع تباطؤ الإنتاجية. ففي حين ارتفع إنتاج العمال في الساعة الواحدة في بلدان العالم الغني بنسبة 4% سنويا خلال فترة الخمسينيات والستينيات تراوحت النسبة المعتادة عند 1% في العقد الذي سبق جائحة كوفيد-19.

حتى مع موجة الابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي تظل الإنتاجية ضعيفة (أقل من 1% تقريبا). وهذا وضع سيئ للنمو الاقتصادي.

تشير ورقة اقتصادية جديدة أعدها خمسة باحثين هم اشيش ارورا وشارون بيلينزون ولاريسا سيواكا وليا شير وهانسن تشانج إلى أن نمو الجامعات السريع جدا وركود إنتاجية العالم الغني قد يكونا وجهين للعملة نفسها.

لمعرفة السبب يجب الرجوع إلى التاريخ. ففي فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية أدّى التعليم العالي دورا متواضعا في الابتكار. وكانت تقع على عاتق الشركات مسؤولية أكبر في تحقيق الابتكارات العلمية. في أمريكا خلال الخمسينيات أنفقت الشركات على الأبحاث أربعة أضعاف ما أنفقته الجامعات. وكانت شركات من شاكلة شركة الاتصالات «إيه تي آند تي» وجنرال إليكتريك في قطاع الطاقة مهتمة بالبحث العلمي بقدر اهتمامها بالربح. ففي الستينيات نشرت وحدة البحث والتطوير التابعة لشركة الكيماويات «دوبونت» عددا من الموضوعات في مجلة الجمعية الكيميائية الأمريكية يزيد عما نشره معهدا ماساتشوسيتس للتكنولوجيا وكاليفورنيا للتكنولوجيا معا. وأجرى نحو عشرة علماء أبحاثا في معامل بيل التي كانت سابقا جزءا من شركة أيه تي آند تي وحصلوا بموجبها على جوائز نوبل.

ظهرت مختبرات عملاقة خاصة بالشركات لأسباب من بينها قوانين محاربة الاحتكار المتشددة. فهذه القوانين كثيرا ما جعلت من الصعب لشركة ما الحصول على مخترعات شركة أخرى بشرائها. لذلك لم يكن لدى الشركات خيار يذكر سوى تطوير الأفكار بنفسها. وبلغ العصر الذهبي لمختبرات الشركات نهايته عندما تم التخفيف من تشدد سياسة المنافسة في سنوات السبعينات والثمانينيات. وفي الوقت نفسه أقنع تزايد الأبحاث الجامعية رؤساء شركات عديدين بأنهم ما عادوا بحاجة لإنفاق المال على أبحاثهم. واليوم هنالك شركات قليلة فقط في قطاع التكنولوجيا الرفيعة والصناعات الصيدلانية تنجز أي شيء في هذا المجال يستحق أن يقارن بما كانت تفعله «دوبونت» في الماضي.

توحي الورقة الجديدة للباحث أرورو وزملائه بفكرة دقيقة وحاسمة في أهميتها. وتعززها أيضا ورقة أخرى من إعداد مؤلفين مختلفين قليلا وتعود لعام 2019. الفكرة هي أن أداء نموذج العلوم القديم للشركات الكبرى في تحقيق المكاسب المتعلقة بالإنتاجية كان أفضل من النموذج الجديد الذي تقوده الجامعات.

استخدم معدُّو الورقة بيانات ضخمة تغطي كل شيء بدءا من عدد رسائل الدكتوراه وإلى تحليل الاستشهادات (الإحالات البحثية). ومن أجل تحديد صلة سببية بين الأبحاث العلمية الممولة من الدولة والبحث والتطوير لدى الشركات وظفوا منهجية معقدة تنطوي على تحليل التغيرات في الموازنات الفدرالية. وبشكل عام وجدوا أن الاكتشافات العلمية التي تحققها مؤسسات البحث العلمي العامة حصلت على استجابة ضئيلة أو لم تحصل على أية استجابة من الشركات الراسخة على مدى سنوات عديدة.

قد ينشر عالِم في مختبر جامعي ورقة علمية بارعة بعد الأخرى ويوسع من حدود علم أكاديمي معين لكن كثيرا ما لا يكون لذلك أثر على نشرات الشركات وبراءات اختراعاتها أو عدد العلماء الذين توظفهم باستثناء علوم الحياة. وهذا بدوره يشير إلى أثر ضئيل على الإنتاجية على نطاق الاقتصاد.

لماذا تصارع الشركات لاستخدام أفكار تنتجها الجامعات؟ فقدان مختبرات الشركات جزء من الإجابة. فمثل هذه المؤسسات شكلت مأوى مفعما بالحيوية والنشاط للمفكرين والمنفذين. في أربعينات القرن الماضي كان لدى معامل بيل الفريق المتعدد التخصصات والضروري من الكيميائيين وعلماء التعدين والفيزيائيين لحل المشاكل النظرية والعملية المتداخلة والمرتبطة بتطوير الترانزيستور. تلك الخبرة المتنوعة اختفت إلى حد بعيد.

جزء آخر من الإجابة يخص الجامعات. فبعد تحرر البحث العلمي من مطالب الشركات الممولة صار يركز على إشباع فضول الشغوفين بالتكنولوجيا أو تعزيز عدد الإحالات إليه (الاستشهادات به) أكثر من اهتمامه بتحقيق اكتشافات تغير العالم أو تجني أموالا.

الاعتدال في البحث ليس شيئا سيئا. فبعض التقنيات الجديدة كالبنسلين اكتشفت بالصدفة تقريبا. لكن إذا كان كل أحد ينخرط في جدل بيزنطي سيعاني الاقتصاد.

عندما تنتج مؤسسات التعليم العالي فعلا أبحاثا أكثر ارتباطا بالعالم الحقيقي تكون العواقب التي تنشأ عن ذلك مدعاة للقلق. فمع تخريج الجامعات المزيد من حملة الدكتوراة الجدد، تجد الشركات كما يبدو أن اختراع أشياء جديدة أكثر سهولة، بحسب معدِّي الورقة. مع ذلك لبراءات اختراع الجامعات أثر عكسي يحرض الشركات على إنتاج عدد أقل منها. فمن الممكن أن تتجه الشركات القائمة والتي تشعر بالقلق من منافسة الشركات التابعة للجامعات إلى التقليل من البحث والتطوير في ذلك المجال.

وعلى الرغم من أن لا أحد يعلم يقينا كيف تتوازن هذه التأثيرات المتناقضة يشير مؤلفو الورقة إلى تراجع صاف في براءات اختراع الشركات بحوالي 1.5%. بكلمات أخرى قد تجعل المخصصات المالية الضخمة من الموازنة العامة للأبحاث العلمية الشركاتِ في العالم الغني أقل ابتكارا.

ربما مع مرور الوقت ستتعاون الجامعات والشركات على نحو يعظِّم الأرباح. ومن الممكن أن تجبر سياسة التنافس الأكثر تشددا الشركاتِ على التصرف بطريقة أقرب إلى ما كانت تفعله في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية والاتجاه إلى تعزيز أبحاثها الداخلية.

باحثو الشركات وليس باحثو الجامعات هم الذين يقودون ازدهار الابتكار الحالي في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي. ففي حالات قليلة نهضت مختبرات الشركات مرة أخرى. لكن عند لحظة ما سيتوجب على الحكومات الغربية أن تسأل نفسها أسئلة صعبة. ففي عالم يشهد نموا اقتصاديا ضعيفا قد يأتي وقت يستوجب إعادة النظر في الدعم العام السخي لأبحاث الجامعات في الغرب.