الثقافة في عالم المدن

12 مارس 2022
12 مارس 2022

يعيش أكثر من نصف سكان العالم اليوم في مناطق حضرية بفعل التنمية الحضارية المتسارعة، ولهذا فإن الطريق إلى التنمية المستدامة يمر عبر المدن في كل أنحاء العالم، فعلى الرغم من أن المدن تواجه مجموعة متزايدة من التحديات سواء على مستوى التعليم أو الأمن الغذائي أو إدارة المياه أو حتى تطوير تلك المدن نفسها، إلاَّ أن التقرير العالمي الخاص بالثقافة من أجل التنمية الحضرية المستدامة (مستقبل الثقافة الحضرية)، الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلم (اليونسكو)، يؤكد أن المدن "واحدة من أكثر الاختراعات البشرية ذكاءً لصياغة حلول للمستقبل، إذ تجمع المدن بين الأشخاص المبدعين والمنتجين معاً، مما يساعدهم على القيام بأفضل ما يفعلونه: التبادل والإبداع والابتكار".

وعليه فإن الثقافة تأتي في قلب (التجديد والابتكار الحضريين)، باعتبارها قوة وأصل استراتيجي لإنشاء المدن المستدامة، ففيها يكمن الإبداع والتنوع اللذان يعدان المحرِّك الرئيس للنجاح الحضري. وإذا كانت "المدينة المتمحورة حول الإنسان هي مساحة تركز على الثقافة" – حسب اليونسكو- فإن هذه الثقافة ستكون أكثر فاعلية إن كانت ضمن مفهوم تطوير التنمية الحضرية المستدامة القائمة على تقوية الأصول الثقافة للمدن بما يميِّز هُويتها المجتمعية، ويعزز الفرص الإبداعية التي تُسهم في تمكين مقومات المدينة وازدهارها.

يكشف لنا تقرير اليونسكو أن العام 2007 "يمثل لحظة تاريخية لكوكبنا" – بتعبير التقرير -، حيث كانت المرة الأولى التي يتفوق فيها عدد سكان المناطق الحضرية على عدد سكان المناطق الريفية؛ فحوالي أكثر من (55%) من سكان العالم يعيش في المدن، مما أدى إلى تحديات ديموغرافية ستتفاقم بحلول عام 2050، ذلك لأن هناك أكثر من 28 مدينة في العالم سيزيد عدد سكانها عن 10 ملايين نسمة بحلول 2030، وهو نمو حضري يصفه التقرير بأنه (غير مسبوق). ولهذا فإن دور المدينة سيتطور بتطور ديموغرافيته، وسيكون للمدن دور حيوي في تطوير (حلول شاملة للتحديات المستقبلية)، غير أن هذه الحلول لا يمكن أن تقوم سوى عن طريق "دمج القيمة الشاملة للثقافة في عمليات مثل التجديد الحضري والاندماج الاجتماعي والازدهار الاقتصادي" – بحسب تقرير اليونسكو-.

إن المدن باعتبارها مراكز حضرية تعتمد في بناء منظومتها على الثقافة؛ فهي شريك استراتيجي تنموي، قادر على دعم الأهداف الإنمائية على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والبيئي. فالتنمية الحضرية والاطراد المتزايد في ديموغرافيتها، سيجعلها تركز على مراكز القوة في أفراد مجتمعها من ناحية، والمقومات المتميزة التي تمتلكها من ناحية أخرى، وبالتالي قدرتها على التعزيز والتمكين، بما يضمن تحقيق الإبداع والابتكار وبالتالي القدرة على دعم تنميتها البشرية والاقتصادية، وتطوير آليات عملها المؤسسي والمدني، لتصبح المدن محركات تنموية داعمة للأهداف الوطنية للدولة.

ولأن العالم سيصبح حضريا بشكل متزايد فإن الحاجة إلى تسريع آليات التوازن بين مجالات التنمية أصبحت أولوية، ليس على مستوى الدولة فحسب بل على مستوى المدن، ولهذا فإن جهود سلطنة عُمان بشأن تعزيز أدوار المحافظات وتمكينها، يأتي ضمن الوعي الوطني بأهمية التنمية الحضرية للمدن، بوصفها مراكز اجتماعية وثقافية واقتصادية قادرة على ضمان حيوية هذه المدن واستدامتها. لقد كانت عُمان بذلك أنموذجا مهما في التنمية الحضرية القائمة على الخيارات المجتمعية، وتعظيم دور أبناء المجتمع، في رصد الاحتياجات المحلية، والإمكانات المتوفرة، وبالتالي القدرات الشبابية المبدعة التي يمكن من خلالها تأسيس مدن مستدامة.

إن السؤال (كيف يمكن للثقافة أن تُحدِث فرقا لمستقبلنا الحضري؟) من بين التساؤلات التي يطرحها تقرير اليونسكو ، وهو سؤال تكمن أهميته في إشكال الفصل بين الثقافة والمستقبل الحضري للمدن، باعتبار أن مستقبلها مرتبط بالتخطيط التنموي المتعلق بالتعليم والبيئة والاقتصاد، إلاَّ أن الأصل أن يبدأ أي إطار تنموي من الثقافة وينتهي بها، لأنها المركز والقدرة التي تُحرِّك مجالات التنمية كلها، ولهذا فإنه انطلاقا من الهُوية الحضرية للمدينة، ونوعية الحياة الحضرية، وثقافاتها المحلية القديمة والحديثة، وأشكال التعبير فيها بفنونها وتراثها، وقدرتها على الانفتاح على الآخر، وصولا إلى إمكاناتها الإبداعية والابتكارية، ثم الصناعات الإبداعية، كل ذلك يُعد دعامة تنموية متأسسة على "فهم كامل لقوة الثقافة في تلبية الاحتياجات الاجتماعية لسكَّان المدن وتطلعاتهم إلى نوعية حياة أفضل" – بحسب التقرير -.

قدمت لجنة السياسة الاجتماعية والتعليم والتوظيف والبحث والثقافة في الاتحاد الأوروبي دراسة لافتة بعنوان (كيفية تصميم استراتيجيات التنمية الثقافية لتعزيز التنافسية المحلية والإقليمية والميزة النسبية. نظرة عامة على الممارسات الجيدة)، وهي دراسة لم ترصد الدور الذي تقدمه الثقافة في التنمية الحضرية وحسب، بل قدمت إضافة إلى ذلك مجموعة من خطط العمل التنموية في مجال الثقافة، والمشروعات التي يمكن أن تُؤَسس بناء على المعطيات الحضرية، إضافة إلى تعظيم الأصول الثقافية.

وانطلاقا من البُعد المحلي تبدأ الدراسة بالقدرة على توليد فرص إبداعية من منظور تعظيم القيمة المحلية للثقافة، وتعزيز الثقافة باعتبارها محفزا للإبداع، وبالتالي عنصرا حيويا في بعدها الدولي، وبناء عليه سيكون من بين الفرص المتاحة لتمكين الثقافة هو تنمية قدرتها على الانفتاح على التغير العالمي مع الحفاظ على قيمتها الأصيلة، إضافة إلى الاستفادة من الفرص الرقمية، وزيادة الوعي بأهمية الثقافة في التنمية الحضرية من خلال البرامج التنموية التي (تعزز الثقافة كمحفز للإبداع)، ومكافأة التميز، واستثمار "إمكانات التراث الثقافي للتنمية المحلية والإقليمية التي تعززها سياسات التماسك والتنمية" – حسب الدراسة -.

ولهذا فإن من بين أهم البرامج التي أوصت بها الدراسة هو (مساهمة التراث الثقافي في الاقتصاد) باعتباره من أهم برامج استراتيجيات التنمية الثقافية التي يقوم عليها التخطيط الحضري للمدن، فالحفاظ على التراث الثقافي وتعظيم قيمته الاجتماعية والاقتصادية، سيسهم في بناء شراكات تنموية قادرة على تأسيس مجموعة من المبادرات الوطنية الداعمة للتنمية من ناحية والقادرة على إيجاد فرص وظيفية إبداعية، تسهم في بناء القدرات ، وتحسين المهارات والكفاءات، وبالتالي تقوية الإدماج الاجتماعي وتماسك المجتمع، وتفتح آفاق أكثر رحابة لتعزيز المشاركة الثقافية للشباب وبالتالي تحسين جودة المعيشة والرفاه الاجتماعي.

ولعل من بين أهم تلك التوصيات التي خرجت بها دراسة الاتحاد الأوروبي هي تخصيص مساحات مكانية في مواقع بارزة في المدن لممارسة الأنشطة الثقافية، وهي مساحات ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية تخضع للإشراف المحلي من قِبل المحافظة أو الإقليم، بحيث تكون مركزا للحياة الثقافة بكافة أشكالها وأنواعها القديمة والحديثة، وتسهم في إثراء التنوع الثقافي، والاستفادة من إمكاناته، وإتاحة الفرصة للشباب للإبداع والابتكار الثقافي والحضاري، وفتح آفاق الشراكة المجتمعية وتعظيم القيمة الاقتصادية للثقافة بحيث يوفر ذلك للمؤسسات الثقافية والاقتصادية فرص للإنتاج والتسويق للأنشطة الاجتماعية والاقتصادية المساندة. فهذه المساحة المكانية تمثل مركزا ثقافيا ليس بالضرورة أن يُكلِّف مبالغ مادية باهضة بقدر أهمية تعيينه باعتباره (ساحة) ثقافية.

تُخبرنا الدراسة أيضا عن برنامج (صندوق التعليم الثقافي) الذي تُخصص له وزارة الثقافة في برلين أكثر من مليوني يورو سنويا، بهدف تقديم مشاريع تعليمية خاصة بالثقافة، تزوِّد الأطفال بالكفاءات الثقافية والجمالية في الأوساط التعليمية الرسمية وغير الرسمية، وهي مشاريع يقدمها الفنانون والكُتَّاب والمهنيون العاملون في المؤسسات الثقافية المحلية. هو برنامج تم إطلاقه من العام 2008، وقد حقق أكثر من 2000 مشروع تعليمي ثقافي بقيمة 16 مليون يورو، وصلت إلى ما يقرب من (500,000) طفل وشاب. لقد أنتجت هذه المشروعات العديد من المبادرات التنموية التي أسهمت في زيادة وعي أفراد المجتمع بأهمية الثقافة في دعم التنمية، بحيث أصبحوا أداة فاعلة لرعاية تنمية المدينة من ناحية، وأكثر إقبالا على الأنشطة الثقافة وتفعيلها من ناحية أخرى.

إن دور الثقافة في دعم التنمية الحضرية وتعزيزها يرتبط بوعي أفراد المجتمع، وقدرة المؤسسات المحلية على تفعيل هذا الدور، وتمكين المبدعين والفاعلين في المجال الثقافي، وتعزيز مكانتهم المجتمعية، بما يوفر لهم الإمكانات اللازمة للإبداع والابتكار، ولأن عُمان موطن الثقافة والفنون فإن قدرتنا على تعظيم دورها الحضاري في المدن المختلفة بتنوعها وثرائها يعتمد على وعينا بهذا الدور، وإمكانات إشراك المجتمع في التخطيط التنموي الحضري الذي يتأسس على الثقافة.

* عائشة الدرمكي كاتب عمانية متخصصة في علم السيميائيات