الثقافة.. تبني نفسها
«الثقافة تبني نفسها».. أشبه بقانون كلي في المعرفة، منبثق عن قانون أشمل، سائر في الكائنات؛ وهو «الحياة تبني نفسها»، يلمسه عموم الناس، وربما لا يكاد أحد لم ينطق به أو بمعناه، فهو ينطلق من قضية كونية، فمذ خلق الله الوجود وبث نواميسه فيه؛ الحياة تعمل عملها وفق مقتضى هذه النواميس، ولا تنتظر من أي كائن أن يقرر لها ما تعمل. نعم.. بعد أن وُجِد الإنسان عمل على تسخير هذه النواميس لمراده، لكن أيضاً هذا غير خارج عن ذلك، فالإنسان.. وُجِد ليقوم بهذا العمل وفقاً لهذا القانون الكوني الذي تحركه الإرادة الإلهية. والثقافة.. هي أيضاً تعمل وفق هذا المنطق، فبالرغم من كونها عملاً بشرياً، يتمتع فيه الإنسان بأفق واسع من «الإرادة الحرة»، إلا أنها خاضعة لمحددات عليا، منها أنه لا أحد يمكنه وقف تفاعلها الاجتماعي وتطورها المستمر.
الثقافة.. كما عرّفتُها من قبل؛ هي: (كل ما أنتجه الإنسان -غالباً بوعيه- فكان له حضوره المتكرر عبر المكان والزمان، ويتسم بالانتشار وتأثيره الاجتماعي، وهذا المنتَج قد يكون مادياً أو غير مادي)، فإذاً.. عنصرا الثقافة الأساسيان؛ هما:
- الانتاج الإنساني؛ فكل ما أنتجته الطبيعة لا يدخل في مفهوم الثقافة؛ فنسق الغابات البكر، وسلوك قطعان الحيوانات هائمة في البراري، مثلاً، لا يشملها تعريف الثقافة.
- التكرار والانتشار؛ فكل عمل إنساني لم يحظَ بذلك، واقتصر تداوله على أفراد محدودين أو على بيئة ضيقة ثم تلاشى، لا يعتبر عملاً ثقافياً. والتكرار والانتشار قد يشكّلان ثقافة محلية كنظام الفلج في عمان، وإن وجدت أفلاج في بلدان أخرى من العالم فلها أنظمتها الإدارية الخاصة بها، أو يكوِّنان ثقافة إقليمية مثل التمنطق بالخنجر في جزيرة العرب؛ إلى عهد قريب، ولا يزال في اليمن وعمان باقياً حتى الآن، وقد يكوِّنان ثقافة عالمية مثل مطاعم ماكدونالد.
ينبغي التمييز بين مفهومي: المثقف، والمفكِّر في الثقافة. فالإنسان كائن مثقف فطرةً. والإنسان القديم الذي صنع السكين أول مرة ثم انتشر صنعها بين الناس هو مثقف، ولعل الثقافة من بعده قامت على كاهله. بيد أن هناك مثقفاً مقلِّداً؛ أي يتمثل العنصر الثاني من عناصر الثقافة وهو تكرار ما وجده والعمل على نشره فحسب، وهذا حال معظم البشر. إلا أن نسبة قليلة منهم تنتج ثقافة، وهذا الصنف المبدع أسميه «المثقف البنائي»، والمقصود.. الإبداع بكل مستوياته ومختلف أنواعه. فالنجار مثقف، وعندما يخترع فيصنع نموذجاً من أدوات الأثاث لا مثيل له من قبل، ثم ينتشر بين الناس، فهو مثقف بنائي في مجاله. والمفكر تحت مظلة معرفية معينة مثقف، فإذا أبدع نظرية معرفية تسود المجتمع، فهو مثقف بنائي، بل.. عندما لا توجد مؤسسات علمية كالمعاهد والمكتبات في مجتمع ما فيعمل شخص على إيجادها فيه؛ فهو مثقف بنائي على نطاق مجتمعه، ومثله مَن يقضي على الأمية المتفشية في المجتمع، أو يوجد مستشفيات بعد أن لم تكن، وهكذا.
وأما المفكِّر في الثقافة ذاتها فهو «المثقف المعرفي»، وهو من يشتغل بدراسة الثقافة وتحليلها، والبحث عن جذورها وماهيتها، والنظر في مآلاتها وعواقبها. والمثقف المعرفي قد يكون فيلسوفاً، بل هو الحري بأن يكون مثقفاً بنائياً، لأنه يبدع في التأصيل الفلسفي، ويأتي بعده المنظِّر في الفكر، في حين.. أن عموم من يكتبون في الثقافة باستدعاء ما كتبه السابقون بطريقة أو أخرى؛ يعتبرون مثقفين معرفيين غير بنائين.
عوداً على بدء.. بالحديث عن «الثقافة تبني نفسها»، لقد ولع الإنسان بتنميط أعماله ومعارفه، لسببين: الأول.. لكي ينسج على مناولها فلا يبدأ من نقطة الصفر. والثاني.. لأجل أن ينقل عمله ومعرفته بسهولة إلى جيل أبنائه، وهذا يشمل كل منتجات الإنسان في الحياة؛ بدايةً.. من المنطق والمناهج، حتى الصنائع العملية كصناعة الأدوية والأحذية، مروراً.. بأنظمة الوظائف وقوانين العمل، وهذا وضع لابد منه حتى تستقر الحياة ويسهل التعامل معها، ولكن لابد أيضاً من الإبداع فيها؛ حتى تتطور الحياة وتنمو معرفة الإنسان، فينتقل من مرحلة إلى أخرى، وإلا لظل على سلوك جده الأول؛ مستوطناً كهفه ومستعملاً أدواته.
كيف يعمل قانون الثقافة هذا بين التقليد والإبداع؟
علينا أن نعرف بأن الثقافة -برغم ما قلتُ عن التقليد فيها وأخذه بالنطاق العريض من أمرها- هي الأكثر سيولة من بين سائر أنظمة الاجتماع البشري، لأنها معرفة نظرية متحركة. وفي أي مجتمع نجد الثقافة ذات شقين: القوالب الثقافية المنجَزة، والإبداع الثقافي. ورغم هيمنة الثقافة المنجَزة على المجتمع إلا أنها تنقاد للثقافة الإبداعية، فالإبداع في الثقافة هو ديناميكا المجتمع؛ إنه روح الله في الإنسان، فكما لا يمكننا الاستغناء عن تدوير لبنات الثقافة المنجَزة فكذلك لا نمضي في الحياة قُدماً بدون إضافات الثقافة البنائية.
الإنسان.. من جهة؛ غالباً ما يميل إلى التقليد لأجل الاستقرار، فالتغيّر اليومي مزعج له، ويثير فيه القلق والتوجس، لذلك.. يعمل على بناء الثقافة وفق معطياته الاجتماعية، مما أوجد أنظمة؛ سياسية ودينية وتعليمية وقَبَلية، تعمل على تنميط الثقافة، فمن طبيعة الاجتماع البشري أنه يقاوم الثقافة الجديدة عليه. لكنه من جهة أخرى؛ يستسلم للثقافة الغالبة، فيعمل على بناء هياكل ثقافية تتناسب مع منظوماته الاجتماعية، فإذا تبنت الدولة -مثلاً- مذهباً اقتصادياً كالسوق الحر؛ فإن المجتمع يعيد تنظيم ثقافته بأن يكافح -بدايةً- الأفكار الليبرالية، فإذا غلبته معطيات هذا الفكر واخترقت جدره فسيتبنى شيئاً فشيئاً هذه الأفكار، ثم لا يلبث ملياً حتى يتمثّلها، ويعتبرها جزءاً من ثقافته.
وهنا يأتي دور المثقف المعرفي؛ فيعمل على دمج الثقافة الجديدة في المجتمع، لكي يحافظ الناس فيه على توازنهم، ولا يشعروا باغتراب دائم في واقع متغيّر باستمرار، وأقوى عملية دمج هي التي تُسنَد من النظام السياسي والمنظومة الدينية، عندما يدركان دورهما، ويقدِران على إدارة التحوّل برؤية مستقبلية وأدوات صحيحة. بيد أن المثقف المعرفي قد يلعب دوراً أكبر في الثقافة وأفضل للمجتمع، عندما يدرس الاحتياج الاجتماعي ودواعيه، والمتغيرات الثقافية واستشراف مآلتها، وكيف يمكن أن نوجد النموذج الصالح لمجتمعنا، دون أن نستورد نماذج من مجتمعات أخرى لها سياقاتها الاجتماعية والثقافية المختلفة عن مجتمعنا، إن هذا الصنف من المثقفين يجب أن يكون موجوداً، حتى يتمكن من فهم كيف تبني الثقافة نفسها داخل المجتمع، فيُمكَّن ليعمل على تهيئة النماذج الثقافية السليمة، الملتزمة بالإيمان بالله ومنظومة الأخلاق.
ومع ذلك.. فإن المثقف المعرفي لن يستطيع لوحده أن يبلور النموذج الصالح للمجتمع بلورة كاملة؛ لسببين:
الأول.. محدوديته المعرفية، فمهما كان واسع التحصيل العلمي، ومقتدراً في مجال التنظير الثقافي، يظل قاصراً عن مواجهة التحولات الكبرى في الحياة، والتي أصبحت تدخل مجتمعنا بدون استئذان، وأول من يتلقاها الأطفال، الذين هم أعمدة الثقافة المستقبلية.
الثاني.. الممانعة التي تبديها الأنظمة القديمة؛ سواءً أكانت سياسية أم دينية أم اجتماعية، فهي كالكائنات الحية لا تستسلم للموت بسهولة، فقد اقتضت سنة الله أن يكون الحفاظ عليها بتجدد خلاياها ودمائها، وبقاء نوعها وتلاحق أجيالها، وكذلك.. هو الحال على مستوى الأفكار؛ فحياتها بتجدد مناهجها وأنظمتها، وما ينبثق عنها من علوم ونظريات وأساليب وأدوات.
ولكي يمضي مسار الحياة الاجتماعية نحو الأمام باقتدار وانسجام؛ فإن الدولة كما تنظِّم الثقافة المنجَزة وتحافظ على ما يصلح للمجتمع من عناصرها؛ عليها كذلك أن تعمل على إيجاد المثقف البنائي، وأن تتبنى الثقافة البنائية، وإلا فإن الثقافة ستبني نفسها بنفسها بعيداً عن الدولة، وربما بما لا تريده هي من الأساس، فضلاً عن كون هذا البناء سيشكّل ازدواجية حادّة غير متوافقة بين رؤية الدولة وما ينتجه المجتمع.
• خميس العدوي كاتب عماني مهتم بالشأن الفكري والتاريخي ومؤلف كتاب "السياسة بالدين"
