التنافسية.. بين اللحاق بركب الحداثة والضرورة التنموية

21 فبراير 2023
21 فبراير 2023

منذ أكثر من عقدٍ من الزمن، صرح رئيس مجلس الوزراء البريطاني الأسبق غوردون بروان، والمبعوث الخاص للأمم المتحدة للتعليم العالمي، والمستشار الاقتصادي في المنتدى الاقتصادي العالمي، في سياق أهمية المهارات المعرفية لتعزيز التنافسية بأنه: «لا حدود للطموح في التقدم، فالعولمة قد فرضت على البلدان التي تسعى للريادة بأن تستخرج أفضل ما تمتلكه مواردها البشرية، ولقد نجحت بريطانيا في الماضي في اكتشاف مواهب وقدرات الموهوبين والمتفوقين، أما التحدي الآن فهو اكتشاف الميزات التنافسية في جميع فئات الثروة البشرية، وتحفيز التجديد والابتكار العابر للقطاعات، لضمان تكامل هذه المهارات وتفاعلها وإدماجها في العملية الاقتصادية».

تعكس هذه المقولة أهمية الكفاءات والمهارات الجماعية في دعم التنافسية، بعد أن صارت المعرفة والمهارات والقدرات الإبداعية سلعةً اقتصادية ذات مردود حاسم في التنمية الوطنية، وأصبح الحصول على المعرفة العلمية والتكنولوجية، والقدرة على استغلالها عوامل استراتيجية للأداء الاقتصادي، وقد أخذت التنافسية المدفوعة بالمعرفة امتدادات مختلفة مع تعاقب الثورات التكنولوجية، وتبلور ظاهرة الكوكبية التي عقدت الكثير من الآمال على القدرات الجماعية للباحثين والمبتكرين والعلماء الشباب، كقوة فاعلة ومؤثرة في استيعاب المعرفة ونقلها وتوطينها.

دعونا أولاً نسلط الضوء على التنافسية كونه مفهوما ديناميكيا معاصرا، عكس التطور التدريجي للاقتصاديات العالمية، متأثراً بتطور نظريات الاقتصاد، وتوالي الاكتشافات العلمية والتقنية التي غيرت ملامح الصناعة، إذ لم تعد التنافسية مرتبطة بكثافة رأس المال وتوافر العمالة، بقدر ارتباطها بالمعرفة والمهارات والإدارة الكفوءة، وهناك عدة مدارس فكرية في تعريف مفهوم التنافسية، وهي وإن اختلفت مساراتها إلا أنها تؤطر التنافسية بالتمحور حول الابتكار والإبداع كمحرك أساسي للنمو الاقتصادي المستند للمعرفة.

على سبيل المثال تأتي مدرسة مايكل بورتر، أو مدرسة الفكر الإداري من جامعة هارفارد الأمريكية، لتركز على بُعدي التكلفة والإنتاج، وتنظر للتنافسية على أنها سياسة تنموية تستهدف رفع الإنتاجية، بالاعتماد على الابتكار الموجه بدلاً من توظيف الميزة النسبية في امتلاك الموارد الطبيعية، أو الموقع الاستراتيجي جغرافياً، أما مدرسة الاقتصاديين ورائدها آدم سميث فتركز على مركزية التخصص في الإنتاجية، عبر الابتكار والإبداع المعزز للنمو المستدام، الذي ينعكس على الرفاه الاقتصادي والاجتماعي، وفي كتابه «ثروة الأمم ونظرية الميزة المطلقة» فإن التنافسية تعتمد على امتلاك الميزة المطلقة، مع توظيف التقنية والعنصر الفكري في الإنتاج.

وإذا أخذنا لمحات من تاريخ ظهور التنافسية، نجدها ارتبطت في السبعينيات بمدى نجاح التجارة الخارجية، حيث اعتمدت الاقتصاديات آنذاك على عوامل الإنتاج الرئيسية، وتوفر الأيدي العاملة الماهرة، أما في الثمانينيات فقد تشكلت التنافسية تبعا لمدى توافق وكفاءة السياسات الصناعية في توجيه عوامل الإنتاج، وبدءاً من منتصف التسعينيات وحتى اليوم، اعتمدت التنافسية على توظيف السياسات التقانية في تعزيز كثافة المعرفة، والتقدم التكنولوجي، وتأصيل الابتكار والإبداع والعناصر الفكرية والمعرفية في الإنتاج، مع التوسع المستمر في اكتشاف واستدامة المهارات والمواهب المتفردة.

وتعويلاً على هذا التطور التاريخي، فإنه من الضروري أن ندرك بأن التنافسية هي نسبية وليست مطلقة، وهي ليست هدفا بحد ذاتها، ولكنها أداة مهمة لتحقيق المتطلبات الوطنية للنمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي، كما جاء في تعريف المنتدى الاقتصادي العالمي، بأن «تنافسية أي دولة تكمن في مجموعة المؤسسات والسياسات والعوامل والآليات التي تحدد مستوى الإنتاجية في الاقتصاد، ومدى القدرة على تحقيق معدلات نمو عالية ومستدامة»، ولكونها جزءا لا يتجزأ من اقتصاد المعرفة، فإن تعريف التنافسية يختلف حسب أداء الاقتصاديات في مؤشر اقتصاد المعرفة، الذي يستند إلى أربع ركائز أساسية وهي: مؤشر الإطار المؤسسي والاقتصادي، ومؤشر الابتكار واستخدام التكنولوجيا، ومؤشر التعليم والتدريب، ومؤشر البنية الأساسية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وكذلك حسب مؤشر التنافسية العالمية الناتج عن دمج مؤشرات الاقتصاد الكلي والجزئي.

وباستثناء أمثلة معدودة، فإن أداء معظم الدول العربية في مؤشر التنافسية العالمية لا يزال بحاجة للدعم والتمكين، مما يستوجب الاسترشاد بمؤشرات إقليمية ذات دراية بواقع التحديات التي تعترض تحقيق مستويات أداء متقدمة، مثل مؤشر التنافسية العربية، الذي يتركب من 70 مؤشرا مقسمة إلى جزأين؛ مؤشرات التنافسية الكامنة والجارية، إذ تركز مؤشرات التنافسية الكامنة التي يبلغ عددها (17) على الاستثمار للمدى الطويل، مثل تنمية رأس المال البشري، ودعم منظومات الابتكار الوطنية، وتتوزع مؤشراتها الفرعية على ثلاث ركائز وهي الطاقة الابتكارية ونقل وتوطين التقانة، ورأس المال البشري، وكفاءة البنى الأساسية التقانية والرقمية.

أما مؤشرات التنافسية الجارية فهي تستهدف تحسين الأداء الحالي، ودعم التطوير قصير الأمد لاقتناص مكاسب سريعة، تكون بنائية للتطوير على المدى المتوسط والطويل، وتعكس مؤشراتها الفرعية البالغة من العدد (53) مؤشراً، محاور الأداء الكلي للاقتصاد، وديناميكية الأسواق، والميزة النسبية المحلية، ومستوى الإنتاجية بالنسبة للتكلفة، ومدى جاذبية بيئة الأعمال لاستقطاب الاستثمار الخارجي، وكفاءة الحوكمة، والسياق المؤسسي والتنظيمي للعملية الاقتصادية.

والسؤال الأهم هو: كيف يمكن توظيف ركائز مؤشر التنافسية العربية كدلائل استرشادية في تعزيز الأداء الكلي على المؤشرات الدولية؟ إن هذا المؤشر قد اختصر الكثير من جهود التخطيط الاستراتيجي في تعريف قطبي التنافسية، وهما الركائز الكامنة والجارية، ويستوجب ذلك تحليل واقع الأداء الحالي تبعاً للركيزتين، بما يتيح الفرصة لتحديد الغايات العليا على مستوى دعم القدرة الحالية والمستقبلية، ثم تعريف الفرص المواتية لتطوير وتحسين المؤشرات الفرعية الحاسمة، على أن يرافق ذلك بالتوازي تحويل الميزات النسبية على مستوى الموارد الطبيعية والثروة البشرية لمزايا تنافسية، والاستمرار في البحث عن المزيد من المزايا النسبية، وإضافتها كأصول استراتيجية لمجموع المزايا التنافسية الوطنية، ثم تأتي عملية تحليل نقاط القوى في هذه المزايا، لتحديد دورها وتوجيهها في رفع أداء القطاعات الحيوية الرئيسية للاقتصاد، على المدى القريب والبعيد.

وهنا تبرز أهمية المعرفة والتطوير التكنولوجي والابتكار، في مقدمة القوى التي تشكل محيط التنافسية على المستوى المؤسسي والقطاعي والوطني، فالتنافسية الكلية إنما هي نتاج تنافسية المشروعات والمؤسسات والقطاعات، ويُعد توظيف المعرفة في امتلاك وتطوير المزايا التنافسية مطلباً تنموياً حاسماً في ظل التحديات التنافسية الإقليمية والدولية، وذلك من أجل تبوء مكانة في خريطة الاقتصاد العالمي القائم على المعرفة، ولا نبالغ إذا قلنا بأن بناء وتنمية القدرات التنافسية يعتمد على الحراك المعرفي والتقاني للباحثين والمبتكرين والعلماء الشباب، فإذا كانت المعرفة هي محرك التنمية، فإن الشباب هم صناع التنمية، والقوة المنوط بها في توليد المعرفة الأصيلة، وترجمة المعارف الضمنية الاستثنائية، التي لا يمكن تقليدها واستنساخها في منظومات اقتصادية أخرى، وتوظيف هذا التفرد هو الذي يقود للإبداع.

إن أطر التنافسية، الإقليمية منها والدولية، تحمل مضامين مهمة للاقتصاديين، وواضعي السياسات، وراسمي الخطط، ففي المجمل هي تركز على دعم البيئات التمكينية في نظم التعليم العالي، والمؤسسات البحثية، ونظم الابتكار الوطنية، لضمان توفر كتلة حرجة من رأس المال المعرفي والفكري، تقوده القوة البشرية عالية التأهيل والكفاءة، وذات المهارات وقيم العمل المطلوبة، للحفاظ على كثافة المعرفة من حيث الإنتاج والإتاحة، واستخدام التكنولوجيات المساندة، مع تحقيق الانسجام والمواءمة في تنمية واستدامة المهارات المعرفية الجماعية، سعيا نحو التنمية الاقتصادية المدفوعة بتكامل المزايا التنافسية.