التمييز بين الضحايا يساوي التمييز بين الأحياء

02 أبريل 2023
02 أبريل 2023

تُعنى مؤسســة جنوب أفريقيا للهولوكوست والإبادة الجماعية بأربع حالات: (1) أعمال الإبادة والتشريد التي ارتكبتها ألمانيا عام 1904م ضد شعبي «أوفاهيريرو وناما» في ناميبيا (2) المذابح في أرمينيا (3) الهولوكوست (4) الإبادة الجماعية في رواندا. وتدير المؤسسة ثلاثة مراكز مستقلة في جوهانسبورغ وكيب تاون وديربان. وتزاول برامجها وأنشطتها بالشراكة والتعاون مع الأمم المتحدة واليونسكو ومؤسسة روزا لوكسمبورغ ومعهد غوتا والعديد من الجامعات والمتاحف والمنظمات. ومنذ تأسيسها في عام 2007م لم تعترض إسرائيل على أعمال المؤسسة وشركائها ولم تحاول وقف أي من برامجها تحت طائلة الاستخفاف بالهولوكوست، أو لاعتبار المقارنة مع ما تعرضت له أمم وشعوب أخرى تصغيرا لهول المحرقة وحطا من فظاعة ما تعرض له اليهود. إلا أن حدثا أوشك أن يقع في نوفمبر الفائت، أثار زوبعة وصخبا كبيرا، وجرى إيقافه وانهالت عليه البيانات والاتهامات بازدراء المحرقة، والسخرية من ضحاياها، عندما أراد معهد غوتا الحكومي الألماني، بالتعاون مع مؤسسة روزا لوكسمبورغ، أن يعقد بمقره في تل أبيب، ندوةً عنوانها «استيعاب ألم الآخرين: الهولوكوست والنكبة وثقافة التذكر». وهنا بالضبط صارت المقارنة عملا شنيعا، وجُرما لا يغتفر!!!

يمكنك التكلم عن آلام الأوفاهيريرو والناما والتوتسي والأرمن، وغيرهم، ولكن لا يمكنك التكلم عن آلام الفلسطينيين؟!!

تقول تالي نيتس المديرة التنفيذية لمؤسسة جنوب أفريقيا للهولكوست والإبادة الجماعية عن أنشطة مؤسستها: «نحن لا نساوي رواندا بالمحرقة أو أوشفيتز، ولا نقارن الإبادة الجماعية لناما أو أوفاهريرو بالمحرقة. نحن نتواصل حيث توجد اتصالات، لكننا نقترح فقط أن الإبادة الجماعية يمكن أن تحدث بطرق مختلفة. ومع ذلك، هذا لا يعني أن الإبادة الجماعية في رواندا كانت أقل قسوة.. أعتقد أن التعريفات تساعد على منع «المنافسة في المعاناة». لا داعي لمنح «الميدالية الذهبية» لتعريف إبادة جماعية، و«الميدالية البرونزية» لتعريف جريمة ضد الإنسانية. فالمعاناة هي المعاناة».

على الأغلب لن يعجب كلام «تالي نيتس» عن المساواة في الألم الإنساني أبواق الحكومة الإسرائيلية ومؤيديها، وعلى وجه الخصوص حينما تتم المقارنة مع ضحايا النكبة من الفلسطينيين، لكن الغمز بالعداء للسامية سيبدو كلاما أجوفا ووقاحة، فيما لو صدر تجاه يهودية ناجية من المعسكرات النازية مثل «نيتس» أو تجاه يهودية أخرى، سبق ذكرها، هي روزا لوكسمبورغ لاختلافها في المسألة القومية مع الفكر الصهيوني، إنما هذه الاختلافات تعطي لمحة عن عدم التطابق بين ما هو يهودي وما هو صهيوني.

تكمن النقطة الأساسية، في حصر التعريف «هولكوست» أو المحرقة، بالفظائع التي لحقت باليهود في الحرب العالمية الثانية، مع رفض قاطع لأن يشمل التعريف ضحايا الأمم والشعوب والأديان والأعراق الأخرى. وبغض النظر عن الموت في ظروف الحرب ومعسكرات الاعتقال نفسها، أو إن كانت أعداد الضحايا أكثر كالروس الذين فقدوا أكثر من 20 مليونا، أو أقل كالبولنديين والغجر.. فلا يجوز بالمعيار الصهيوني لأحد أن يتشارك أو يتساوى في هذا الجحيم مع اليهود، وكأن الاستئثار به نعمة، وليس نقمة، ونعيما وليس جحيما، أو كما استنكرت «تالي نيتس»: «كأنه فوز بالقلادة الذهبية للمعاناة»!!!

انه تمييز بين الضحايا لا يقل بشاعة عن التمييز بين الأحياء. وتلاقي وتماثل، بين فكر يختار وينتخب أمة وعرق أجدر بالحياة، وفكر يختار وينتخب ضحايا وموتى أجدر بالتذكر.

سنرى هذا التماثل بشكل أوضح في استلهام الممارسات النازية وتجريبها على الشعب الفلسطيني، وفي استغلال ذكرى الهولوكوست للتغطية على جرائم الاحتلال الإسرائيلي وممارساته العنصرية، ومحاولة طمس ومحو ذكرى النكبة، فكل ذلك حدث ويحدث في فلسطين.

في عام 2000م تأسس التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA) وتوسع حتى بلغ عدد أعضائه اليوم 35 دولة تشمل دول الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وكندا وأستراليا والأرجنتين و«إسرائيل»، تضاف إليها 10 دول أخرى مراقبة، من بينها تركيا.

ورغم إعلان التحالف، أن توصياته غير ملزمة، غير أنها تكتسب صفة الإلزام عندما تتحول إلى مراسيم وتشريعات تصدرها البرلمانات والحكومات.

بهذه الطريقة تبنى التحالف تعريفا لمعاداة السامية، صوت البرلمان الأوروبي في الأول من يونيو 2017م على اعتماده، وأوصى الدول الأوروبية ومؤسساتها بتبنيه وتطبيقه.

جوهر هذا التعريف ثلاثة بنود: (1) انتقاد إسرائيل والسياسة الإسرائيلية هو معاداة للسامية. (2) المقارنة بين السياسة الإسرائيلية المعاصرة وسياسة النازيين هو معاداة للسامية. (3) وصف السياسة الإسرائيلية بالعنصرية هو معاداة للسامية.

كمحصلة لذلك كان من الطبيعي أن يصنف البرلمان الأوروبي في مايو 2019م حركة الـ BDS على أنها «حركة معادية للسامية»، وأن يراجع الاتحاد الأوروبي المناهج الفلسطينية لحذف ما يعتبره «تحريضا»، وأن يطاح بـ «جيرمي كوربين» من رئاسة حزب العمال البريطاني، وأن يُعطل وسم بضائع المستوطنات في عدد من الدول الأوروبية، وأن تحظر الكثير من الأنشطة في الجامعات والمؤسسات المختلفة، بدعوى معاداة السامية، وأن تصوت العديد من الدول لصالح إسرائيل أو تمتنع عن التصويت، لدى اعتماد قرارات مهمة في عدد من المنظمات الدولية، وأن تسن في العديد من الولايات الأمريكية قوانين وتشريعات، تجعل الولاء لإسرائيل شرطا للتعيين أو الفصل من الوظائف الحكومية والعامة، ومن الدراسة في الجامعات والكليات، كما يظهر من مئات المفصولين، المدرجة أسماؤهم على منصة «Canary Mission» الصهيونية.

من الأمثلة الحاضرة لتلك السلسلة الطويلة من حلقات التكميم والعقوبات، ما أعلنته شبكة فرانس 24 الفرنسية يوم الأربعاء 15 مارس 2023م عن «وقف التعامل فورا مع المراسلة اللبنانية جويل مارون» وتوجيه لفت نظر لثلاثة من الصحفيين الآخرين: اللبنانية دينا أبي صعب واللبناني شريف بيبي، ومراسلة القناة من القدس المحتلة، الفلسطينية ليلى عودة، على أثر وشاية مغرضة من منظمة CAMERA الصهيونية.

قبل ذلك، وتحديدا يوم الاثنين 7 فبراير 2022م قررت إدارة قناة «دويتشه فيله» الألمانية، طرد خمسة موظفين، على خلفية اتهامات بمعاداة السامية داخل المؤسسة. قرار الطرد طال رئيس مكتب القسم العربي في بيروت باسل العريضي، والخبير في مجال إدارة الإعلام الصحفي داود إبراهيم، والصحفية الفلسطينية مرام سالم، والصحفية الفلسطينية الأردنية فرح مرقة والمُحرر مرهف محمود.

بالطبع لم تعد تلك القرارات والإجراءات المتكررة والمتواصلة مثار استغراب ودهشة بعد أن أدركنا صلب الموضوع وأصله وغاياته، إنما التلاعب بالتفسيرات والأحكام، والازدواجية الفجة في الطريقة التي يستهان بها بالأرواح الفلسطينية التي تزهق كل يوم، والتذبذب المقزز بين حساسية مفرطة في استشعار ما يسمى «معاداة السامية» لتنزيه «إسرائيل» عن الملاحقة والمساءلة، وبين انعدام الإحساس والشعور بالدماء الفلسطينية والعربية التي تسيل بغزارة، هو ما يولد الاشمئزاز والنفور والقرف. وقس على ذلك، الدفاع عن الرسوم المسيئة للنبي الكريم والاستهتار بملياري مسلم، وغيرها من الممارسات الكريهة والشاذة، تحت دريئة «حرية الرأي والتعبير»؟!!

في 26 يناير 2022م توقع سفير الكيان الصهيوني لدى الأمم المتحدة «جلعاد أردان» أن يتبنى الأمين العام للأمم المتحدة «أنطونيو غوتيريش» تعريف التحالف الدولي لمعاداة السامية وأن يطبقه على جميع هيئات الأمم المتحدة من الأونروا إلى مجلس حقوق الإنسان. ولو حدث ذلك، فإن انتقاد إسرائيل والسياسة الإسرائيلية، سيصبح محرما في الجمعية العامة وجميع المنظمات الدولية المنبثقة عن الأمم المتحدة، ومعصوما بالفيتو الأمريكي في مجلس الأمن. وليصفق ساعتها الغرب المتحضر وليواصل تغنيه، بهذه «الواحة للديمقراطية» التي يشترط وجودها، إخراس العالم ومحو الشعب الفلسطيني!!

ولكن، هل ستتمكن مراكز النفوذ الصهيونية من الوصول لما تصبو إليه؟؟

يمكننا أن نلحظ تعريف التحالف الدولي لمعاداة السامية مدسوسا بدهاء في الملحق الرابع للنشرة الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو» بعنوان «التصدي لمعاداة السامية عن طريق التعليم مبادئ توجيهية لواضعي السياسات»، وأن نتتبع إدراج الهولوكوست في المناهج الدراسية لبعض الدول التي انخرطت في التطبيع مؤخرا، رغم أن الطرف الأخر الموقّع على اتفاقيات أبراهام، لا يمكن أن يدرج النكبة في مناهجه مطلقا. وللأسف فإن السجل الطويل للنفاق الدولي والكيل بمكيالين لا يَعدُ بالكثير من الخير، وإلا فكيف يمكن تفسير انتخاب العنصري «داني دانون» نائبا لرئيس لجنة الأمم لمتحدة لمكافحة الاستعمار في شهر يونيو 2014م، ثم لرئاسة لجنة القانون الدولي في شهر يونيو 2016م؟؟!! وقبل أيام قليلة، في 12 مارس 2023م ليكون عضوا في لجنة مناهضة الإرهاب التابعة للاتحاد البرلماني الدولي (IPU)؟!!

هل يُعقل أن دولة لم تلبِّ شروط قبولها عضوا في الأمم المتحدة، وما زالت تمارس الاحتلال والاستعمار، وشتى صنوف الإرهاب والقتل والتنكيل، وتخالف القوانين والقرارات الدولية، يتم وضعها، بكل وقاحة، ودون أدنى خجل على رأس لجان المجتمع الدولي لمكافحة الاستعمار، والقانون الدولي، ومكافحة الإرهاب؟؟!! بالتأكيد لم يكن أيا من ذلك ليحدث دون غطاء ودعم مطلق من الغرب المنافق وبعض الدول الكبرى.

أما تعريف التحالف الدولي لمعاداة السامية، فما زال السعي المحموم لمنحه الغطاء الدولي للأمم المتحدة، قائما على قدم وساق، مقابل حملات وانتقادات مضادة ومتصاعدة لقوى حية وناشطة، رفعت عقيرتها، بأن التعريف استغلال بشع ورخيص لذكرى المحرقة من أجل تسويغ السياسة الإسرائيلية الاستعمارية الغاشمة، ومنع الاعتراض عليها وانتقادها.

بل إن جهات ومصادر عديدة، شديدة التأييد لإسرائيل، لم يسعها إنكار أن «المعايير المستخدمة في وثيقة التعريف، تثير الكثير من الاعتراضات، وبالمقام الأول حول القضايا المتصلة بانتقاد إسرائيل وسياسات الحكومة الإسرائيلية». ومن ذلك الدراسة التي أعدها «بيتر أولريش» الخبير وعالم الاجتماع المقيم في الجامعة التقنية ببرلين، والتي تعمدنا الاستدلال بها، لصدورها عن مؤسسة روزا-لوكسمبورغ-شتيفتونغ، سالفة الذكر، وأيضا لتمثيلها الرؤية الغالبة في ألمانيا والأقرب، حتى عند قوى اليسار، للجانب الإسرائيلي.

ويحضرنا في جملة ما نستذكر من كلام «تالي نيتس» أن الجريمة ضد الإنسانية، والإبادة الجماعية، هي تعابير بنفس القيمة والمعنى، من زاوية الإحساس بالألم الإنساني، دون تمييز بين ضحية وأخرى، ولا استخفاف بحجم المعاناة.

وبالمناسبة، فإن خطورة النص والرؤيا، لا تكمن في صحته من الناحية التاريخية والواقعية، وإنما بما يوحي به ويحض عليه، وما تبني عليه دولة الاحتلال والتمييز العنصري من سياسات ومخططات، وإلا فإن خيال الأحبار من كتبة النصوص القديمة، كان أقل ضحالة من فكر «سموتريتش» الذي أنكر قبل أيام قليلة وجود الشعب الفلسطيني. فلا الوجود المادي والمعنوي للفلسطينيين ونتاجهم وإرثهم في هذا العصر، يسعف «سموتريتش، ولا المؤرخ الإغريقي «هيرودوتس».

وهنا يكفي أن نشير إلى أن «هيرودتس» عاش ما بين أعوام (484 ق.م - 425 ق.م) أي بعد «يوشع بن نون» والأحداث المتخيلة لذبح الشعوب السبعة بما لا يقل عن 700 عام، وبعد هدم الهيكل الأول بـ 161 عاما، وبعد بناء الهيكل الثاني بـ 91 عاما، لكن هيرودتس في وصفه لرحلته إلى الإقليم، المفترض أن أحداث سفر التثنية، وسفر يشوع وقعت فيه، والمفترض أن شعوبها قد محيت وأبيدت، كتب أن هذا الإقليم يسمى «فلسطين» وأن سكانه هم الكنعانيون والآراميون، وأنهم امتداد للسكان من الجنس نفسه في جنوب سوريا، ولا يختلفون عنهم في لغتهم وعاداتهم بأي شيء، ولم يلمح أي أثر لأي هيكل؟!!

محمود التميمي كاتب فلسطيني