التمكين الثقافي للشباب

03 يوليو 2021
03 يوليو 2021

يكشف تقرير التنمية الإنسانية العربية (الشباب وآفاق التنمية الإنسانية في واقع متغير)، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، حول قدرات الشباب في التعبير عن ذواتهم، والتغيرات الجوهرية في قيمهم وتطلعاتهم المستقبلية؛ حيث يركز التقرير في تحليل قيم الشباب على مجالات أربعة هي الفرد والعائلة والكيان السياسي والمجتمع.

فالمتغيرات التي تطرأ على تلك المجالات الأربعة تؤثر مباشرة على قيم الشباب، وتسهم في تغير مؤشرات نظرتهم إلى الحياة، وتواصلهم مع من حولهم، وبالتالي فاعليتهم في المجتمع من ناحية، وتعبيرهم عن ذواتهم بإيجابية من ناحية أخرى - بحسب التقرير - ولهذا سنجد أن فئة الشباب هم الأكثر قدرة على التواصل الإلكتروني والتفاعل مع وسائله المتعددة بوصفه مجالا واسعا للتعبير عن تلك الذوات، مما يجعلهم أكثر قدرة على الإبداع والابتكار التقني.

وتحت عنوان (تمكين الشباب يُؤِّمن المستقبل)، قدم التقرير نموذجا لبناء قدرات الشباب وتنميتها، وتوسيع فرص مشاركتهم في المجتمع، من خلال الإدماج، والتمكين الإبداعي، الذي يسهم في بناء قدراتهم، وتحقيق تطلعاتهم؛ فلقد كشف التقرير في هذا الفصل أهم التحديات التي تواجه الشباب العربي، وتجعلهم غير فاعلين في تنمية مجتمعاتهم، مثل الإقصاء، وعدم توفر فرص للعمل والإبداع، إضافة إلى تلك التحديات الاجتماعية التي تنشأ عن عدم الاستقرار النفسي.

ولأن تمكين الشباب من أهم المرتكزات التي تتأسس عليها المجتمعات الفتية فإن سلطنة عمان حرصت على تلك السياسات التي تضمن تعزيز قدرات الشباب وتفاعلهم مع متطلبات المجتمع، وتوسيع فرص مشاركتهم في كافة المجالات، ولعل الاحتفاء بهم في تخصيص يوم للشباب العماني الذي يوافق 26 أكتوبر من كل عام، أحد أبرز تلك المؤشرات؛ ولهذا فإن الحديث عن عناية الدولة بالشباب لا يمكن تفصيله هنا، فهناك العديد من البرامج الإنمائية الخاصة ببناء قدرات الشباب وتمكنيهم على المستوى الوطني. لذا فإن هذا المقال سيقتصر على فرص التنمية الثقافية للشباب، ومتطلبات المرحلة المقبلة من عمر الدولة التنموي.

إن ارتباط الثقافة بالشباب هو ارتباط معرفي إبداعي؛ فلا يمكن بناء قدرات شبابية دون تأسيس ثقافي معرفي؛ ولقد حققت السلطنة في هذا المجال الكثير بدءا بالملتقيات الأدبية والمهرجانات المتخصصة التي أسهمت في بناء قدرات الشباب وتمكينهم الإبداعي، إضافة إلى ما تقدمه المراكز الثقافية والجمعيات المدنية المتخصصة باعتبارها مراكز إبداعية مجتمعية فاعلة. إلا أن الدور التنموي للثقافة في المرحلة المقبلة لا يكفيه أن يكون مساهما في بناء القدرات الأدبية والفنية، بل عليه أن يكون قادرا على الإدارة الثقافية المستدامة؛ التي لا تبني القدرات وتدعم المواهب وحسب، بل تضعها في بيئة قادرة على الصمود أمام المتغيرات الثقافية والاقتصادية، بحيث تستطيع تطوير قدراتها الإبداعية وفقا لمتطلبات المرحلة.

فسلطنة عمان التي يُشكل الشباب في سن العمل (15- 60 عاما) أكثر من نصف سكانها؛ بنسبة (57.9%) - بحسب نتائج التعداد الإلكتروني 2020 الصادر عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات - ، عليها إيجاد خطط تنموية مستدامة قادرة على استيعاب الأعداد المتزايدة من الخريجين سنويا، علما بأن التعداد قد كشف أن «إجمالي الطلاب الملتحقين حاليا بالتعليم العالي 148.602 ألف»، وأن منهم (30.164) ألف يتخصصون في (المجتمع والثقافة)، و(7.243) ألف في الفنون الإبداعية، و(3.004) في (الدين والفلسفة).

والحال أن هذه الأعداد من الطلبة الملتحقين بمؤسسات التعليم العالي داخل السلطنة وخارجها، عليهم أن لا يعتمدوا على المستوى التحصيلي وحسب؛ فواقع الأعمال لا يعتمد على ذلك بقدر اعتماده على المهارات والقدرات التي على الشباب امتلاكها، فالأمر هنا لا يتعلق بالوظيفة المكتبية بل بالوظيفة الإبداعية التي عليهم التمكُّن من مهاراتها. غير أن ذلك لا يمكن تحقيقه من خلال المناهج الدراسية العلمية التي تقدمها المؤسسات الأكاديمية للطلاب والمعتمدة على المعلومة وبعض الأنشطة المهارية، بل يجب أن يتم النظر إلى هذه التخصصات بوصفها إبداعية قادرة على إيجاد البيئة الابتكارية التنافسية التي على الطالب أن يعمل على تأسيسها وهو في مقاعد الدراسة ليستطيع الخروج إلى بيئة الأعمال وهو قادر على تأسيس مؤسسته الثقافية أو ابتكار منتجه الإبداعي التنافسي، أو حتى قدرته على الإبداع المهاري الفكري، وذلك بربط هذه التخصصات الإنسانية بتخصصات إدارة الأعمال التجارية، وتقنية المعلومات وغيرها من التخصصات ذات العلاقة.

كما أن دور مؤسسات الثقافة اليوم لا يقتصر على تقديم ورش الكتابة أو الفنون أو الندوات أو حتى المهرجانات - على أهميتها - بل عليها إضافة إلى ذلك، أن تخطو نحو تأسيس حاضنات ثقافية للشباب المبدع والمتخصص بالشراكة مع المؤسسات المدنية والأكاديمية، بهدف التعريف بالفرص الاستثمارية في مجالات الثقافة، وفرص تأسيس الشركات المتخصصة، والتجارة في الخدمات الثقافية، وآفاق الاندماج والمشاركة في الابتكارات الثقافية التقنية، وغيرها من تلك المهارات التي تؤسس تنمية ثقافية مستدامة، قادرة على تخريج أجيال من المتخصصين في مجالات إدارة الثقافة واستثمارها؛ بحيث يستطيع الشباب استثمار معارفهم المكتسبة من التعليم لإنتاج فرص عملية إبداعية، تسهم في الاستخدام المستدام للموارد الحضارية والطبيعية.

يكشف تقرير التنمية البشرية لعام 2020 (أفق جديد. التنمية البشرية والأنثروبوسين)، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، عن تلك المتغيرات التي تعتري كوكبنا في ظل الظروف الصحية التي طرأت عليه خلال جائحة كورونا (كوفيد19)، إضافة إلى المتغيرات البيئية الناتجة عن إساءة الإنسان نفسه للطبيعة من حوله، الأمر الذي جعله - أي التقرير - يربط بين آفاق التنمية البشرية و (الأنثروبوسين)، أو ما يسمى بالعصر الجيولوجي الجديد، الذي يرصد تأثير الإنسان على البيئة الطبيعية؛ حيث يرى التقرير «أننا ندخل حقبة جيولوجية جديدة، الأنثروبوسن، البشر فيها هم القوة المهيمنة التي تشكل مستقبل الكوكب»، ولهذا فإن منظور التنمية البشرية اليوم يركز على تنمية قدرات الشباب وتمكينهم من الاستفادة من بيئتهم بشكل إيجابي، من خلال (التكيف، والتعلم بالممارسة، والابتكار)، من أجل صون الموارد الطبيعية وتطويرها، وإتاحة الفرص الإبداعية وتيسيرها ليس لسد الاحتياجات فقط، بل أيضا لتحقيق الازدهار التنموي المستدام.

ولهذا فإن قدرة المؤسسات الثقافية على تأسيس حاضنات للثقافة، سيؤدي إلى إيجاد شبكة بيئية مجتمعية متنوعة بتنوع البيئات العمانية وجغرافياتها، وبالتالي تنوع الأنماط المهنية التي يمكن أن تنشأ في ظل ابتكار أنشطة تجارية ثقافية مختلفة، مستمدة من بيئة المجتمع وثقافته من ناحية، وقدرة الشباب على إبداع وابتكار أنماط ثقافية جديدة من ناحية أخرى. الأمر الذي سيحقق حوافز وأنظمة تسهم في التنمية البشرية (المستنبطة من الطبيعة) - باصطلاح تقرير التنمية البشرية -.

إن الشباب هم القاعدة التنموية التي تؤسس المجتمعات، والاستثمار في تنميتهم الثقافية والمعرفية، هدف أصيل من أهداف الرؤى الاستراتيجية في المجالات الإنمائية كلها، ولكي نستطيع أن نقدِّم لهذه الأجيال بيئة تمكنهم من الإبداع والابتكار والمشاركة الفاعلة في بيئة الأعمال، علينا أن نؤمن قبل كل شيء بأهمية الإبداع الثقافي، والاستثمار الثقافي في مستقبل الاقتصاد الوطني، وفتح فرص الوظائف الإبداعية، وبالتالي إمكانات تمكين الشباب المبدع والمتخصص ليكون قادرا على المنافسة في بيئة الأعمال، ليس بوصفه متعلما وحسب بل ماهرا قادرا على تأسيس إدارة ثقافية منافسة أو تقديم خدمات ثقافية متخصصة وبالتالي المساهمة الفاعلة في تنشيط سوق العمل وازدهاره.