التكنولوجيا الأخلاقية.. حوار القيم والصناعة في اقتصاد «حلال»
في التاسع من يناير من عام 2001، اندلعت فضيحة غذائية كبرى في جميع أنحاء إندونيسيا؛ الدولة الأكبر في العالم من حيث عدد السكان المسلمين، حيث اتهم مجلس العلماء الإندونيسي (MUI) شركةً يابانيةً في العاصمة جاكرتا باستخدام مشتقات لحم الخنزير في إنتاج مادة الغلوتاميت أحادية الصوديوم المُحسِنة للنكهة، بناءً على تقرير لجنة التفتيش الميدانية لخط الإنتاج، التي باشرت عملها في سبتمبر من عام 2000، وكانت هذه المنتجات تحمل شعار «حلال»، طالبت الحكومة الإندونيسية تقديم تفسير، واتخاذ الإجراءات المناسبة، تجاوبت الشركة مع المطالبات العلنية لمجلس العلماء الإندونيسي، وتم توقيف عدد من موظفي الإدارة العليا، وبدأت تحقيقات واسعة عن هذه الحالة التي تتضمن خرقا واضحا لأخلاقيات وممارسات خط تصنيع أغذية «حلال»، وصدر اعتذار رسمي بعد سحب جميع الكميات من الأسواق.
من المؤكد أن مُحسِّن النكهة محل الخلاف لم يكن يحتوي على أيِّ من منتجات لحم الخنزير؛ لأن الفحوصات المختبرية أثبتت خلوه من متبقي دهون أو أنسجة الحيوان، ولكن ما حدث هو أن الشركة - لأسباب اقتصادية - وافقت على استبدال مشتق باكتوسويتون (Bactosoytone) من لحوم البقر، بنفس المشتق من لحم الخنزير، وذلك كوسط لاستزراع البكتيريا التي تنتج الإنزيمات اللازمة في عملية الإنتاج، وحدث هذا الاستبدال بعد اعتماد منتجات الشركة بأنها «حلال»، بدا أن الفضيحة قد قوضت وشككت في صلاحية شهادات الاعتماد، وفي ذات الوقت فرضت تحولا مفصليا في أهمية تضمين محور «التكنولوجيا الأخلاقية»، في فهم درجة التعقيد في سياق تصنيع منتجات «حلال»، وعلاقتها بالسياقات الشرعية، والاجتماعية المتعلقة بثقة المستهلكين.
أثارت هذه الفضيحة التي تناقلتها وسائل الإعلام الغربية تحقيقات مماثلة في شركات منتجات «حلال» في جميع أنحاء العالم، وفي مقدمتها شركة نوفوزايمز الدانماركية ((Novozymes؛ المتخصصة في إنتاج الإنزيمات للأغراض التصنيعية، والبحث العلمي، كان التركيز حينها على رفع وعي المنتجين بضرورة الحصول على شهادات اعتماد من جهات موثوقة، وتضمين متطلبات «حلال» في مختلف عمليات خط الإنتاج، والتفاصيل المتعلقة بالتقانة الحيوية، وجميع نقاط التداول لتجنب التلوث التبادلي، واتجهت الأنظار نحو المجلس الإسلامي للغذاء والتغذية (IFANCA) في شيكاجو بالولايات المتحدة الأمريكية كمرجعية دولية، وفي ذات الوقت بدأ الحراك في المنظمات الإسلامية مثل منظمة التعاون الإسلامي، في تطوير تشريعات تنظيمية لشركات الأغذية والأدوية التي ترتبط منتجاتها بسوق «حلال»، وتأسيس منظومة الرقابة والتفتيش وإصدار شهادات الاعتماد المطلوبة للتصدير، والاستخدام المحلي.
والسؤال هنا: لماذا كل هذا الاهتمام بمنتجات «حلال»، وماذا تقول الأرقام؟ في البدء لا بد من الإشارة إلى أن هذه المنتجات تستهدف عالميًا 2.2 مليار شخص مسلم، أي ما يعادل 28.7٪ من سكان هذا الكوكب، ويمثل المستهلكون المسلمون شريحة سريعة النمو، مما يفرض الحاجة إلى دعم وتطوير سوق «حلال» لتلبية احتياجات هذه الشريحة، عبر القطاعات السبعة الرئيسية للاقتصاد الإسلامي؛ وهي الصيرفة والتمويل الإسلامي، وأغذية «حلال»، والأزياء المحتشمة، ووسائل الإعلام والترفيه الرزين، والسفر والسياحة الصديقة للمسلمين، والأدوية واللقاحات، ومستحضرات التجميل والعناية الشخصية، وتحتل أغذية «حلال» المرتبة الثانية بين هذه القطاعات.
ويشير تقرير حالة الاقتصاد الإسلامي العالمي للأعوام 2015-2020 إلى أن إنفاق المستهلكين المسلمين في هذه القطاعات -باستثناء قطاع الصيرفة والتمويل الإسلامي- بلغ ما قيمته 1.8 تريليون دولار في عام 2014، وارتفع إلى 2.6 تريليون دولار بحلول عام 2020، ثم واجهت تباطؤاً واضحاً خلال الأربعة والعشرين شهراً من جائحة كورونا، تسبب في انخفاضٍ بنسبة 8٪ في الإنفاق الكلي، وعاود نموه بشكل ٍملحوظٍ منذ منتصف عام 2022، ومن المرجح أن تصل إلى 3 تريليونات دولار بحلول عام 2024، ووفقًا لتقرير مؤسسة Grand View Research، بلغت قيمة سوق الخدمات اللوجستية الحلال العالمية 299.96 مليار دولار أمريكي في عام 2020، واستمر الاستثمار العالمي في صناعات «حلال» في الارتفاع بشكلٍ مطّرد، ومن المتوقع أن يصل إلى 1.38 تريليون دولار بحلول عام 2024، وأن تصل صادرات قطاع أغذية «حلال» لوحدها في الأسواق العالمية إلى 3 تريليونات دولار أمريكي بحلول عام 2027، أما الطلب على المكملات الغذائية الحلال ذات الأصول العضوية فهو آخذ في الازدياد، ووفقًا لتقريرٍ مركز الاستشراف المستقبلي Future Market Insights، فمن المتوقع أن تزيد مبيعات هذه المنتجات من 58 مليار دولار أمريكي في عام 2021، إلى 116 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2031، مما يجعل اقتصاد «حلال» أحد أسرع الاقتصادات نموًا في العالم.
وهذا يقودنا إلى حقيقة أن سوق «حلال» أصبح يجتذب شرائح كبيرة من المستهلكين من غير المسلمين، بعد أن أثبتت منتجاتها ميزة مطابقة الاشتراطات الصحية، ومراعاتها للأبعاد البيئية، والمسؤولية الأخلاقية تجاه الموارد الطبيعية، والممارسات الجيدة في تصنيعها وتداولها، وتم الاعتراف بها وبشكل متزايد كأغذية آمنة في عصر الأمراض والكوارث الصحية، مما أدى إلى التوسع المستمر في قاعدة المستهلكين، وبذلك لم يعد الحلال مجرد قوانين وتعاليم دينية تتعلق بالطعام وتجهيزه؛ بل أصبح سوقًا عالميًا ضخمًا وسريع التطور، تدعمه منظومة متنامية من الفاعلين الاستراتيجيين، التي تضم المستثمرين، والمنتجين، والهيئات المختصة بالتفتيش والاعتماد والتصديق، ومختبرات البحث والتطوير، وحاضنات ومسرعات الابتكار، وشركات التكنولوجيا الحيوية، وقطاعات الخدمات واللوجستيات والتسويق والإعلام، وتوجهه منظومة القيم والحوار المستجد بين التكنولوجيا والصناعة والمجتمع، وهذا ما عزز من قدرة القطاع على الصمود أمام تداعيات جائحة كورونا، واستعادة أدائه عبر أسواقه المستقرة، التي تحمل معها مجموعة من الاحتمالات ذات العوائد الإيجابية.
وتمثل هذه التطورات والميزات نافذة استراتيجية لخلق فرص عمل قائمة على التكنولوجيا، عن طريق توجيه الاستثمارات في أولويات استراتيجية لهذا القطاع من جهة، واستغلال المواهب والطاقات العلمية للباحثين والمبتكرين الشباب من جهةٍ أخرى، فنجد بأن إطلاق المنتجات العالمية مع طلبات الحصول على اعتماد «حلال» قفز بنسبة 20٪ من 2018، وشكلت نسبة 63 % من مصادر هذه المنتجات من آسيا، وتحديداً من ماليزيا التي تحتفظ بالمركز الأول في مؤشر الاقتصاد الإسلامي العالمي (GIEI) للعام الثامن على التوالي.
تعالوا نقرأ باختصار تجربة ماليزيا التي تبوأت طليعة اقتصاد «حلال» العالمي، ويساهم هذا القطاع بنحو 10 % من إنتاجها المحلي الإجمالي، إذ تقوم وزارة التنمية الإسلامية، ومؤسسة تنمية اقتصاد حلال، بقيادة هذا القطاع الديناميكي، من خلال خطط استراتيجية قصيرة ومتوسطة الأمد، ومجموعة كبيرة من الموارد البشرية الشابة، والمواهب العلمية التي تنتج المعرفة المتجددة، والابتكارات التكنولوجية الداعمة لتنفيذ «الخطة الوطنية لتمكين اقتصاد حلال 2030»، وتقوم هيئة تنمية الاستثمار الماليزية بتعزيز القيادة العالمية للقطاع، عن طريق الحزم التحفيزية، والتعديلات التي أدخلتها على قانون تشجيع الاستثمار، وتمكنت ماليزيا من تحقيق السبق العالمي في إنشاء الحدائق العلمية الخاصة بصناعات «حلال»؛ حيث طورت (14) حديقة علمية في مختلف الولايات في ماليزيا، وأسهمت في خلق فرص عمل جديدة للشباب، وأتاحت الفرصة للمواهب العلمية والابتكارية في دعم القطاع محليا، والانطلاق للعالمية عبر الشراكات الاستراتيجية مع الشركات الابتكارية متعددة الجنسيات.
كان اقتصاد «حلال» في بداياته بمثابة فكر، ثم أصبح طموحا، وصار الآن على رأس الأولويات الاستراتيجية للدول التي نجحت في استشراف معالمه، ووضعت مسارات ذكية لإتاحة الفرص، واغتنامها على أساس المبادرة والابتكار، وإن كانت فرص النمو الاقتصادي متاحة لجميع دول العالم، إلا أن اقتناص الفرص الذهبية هي مهمة ليست سهلة على الكل، ففي العمق تأتي أهمية إضفاء الطابع المؤسسي على هذا القطاع، باعتباره مساراً استثمارياً منفصلاً عن تخصصات الغذاء المعتادة، وتوجيه الممكنات المعرفية والعلمية في نقل وتوطين التكنولوجيات المتقدمة والدقيقة، وتعريف مجالات الانتفاع الاقتصادي المدفوع بالتميز العلمي والتقني، مثل التوحيد القياسي لنظم تحليل المخاطر، ونقاط التحكم الحرجة في التصنيع، أو تطوير المعايير المرجعية للرقابة الصحية على طول خطوط الإنتاج وسلاسل التوريد، وابتكار منهجيات ضمان الامتثال إلى «التكنولوجيا الأخلاقية»، وصناعة الأطر التنظيمية الصديقة للابتكارات في منتجات وخدمات «حلال»، مع الأخذ في الاعتبار إدماج العلماء الشباب، والمبتكرين التكنولوجيين الذين هم عماد الاقتصادات سريعة النمو مثل اقتصاد «حلال».
د. جميلة الهنائية باحثة في سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار
