التفاصيل مع محمد كريشان
لا تحس بمرور الوقت وأنت تقرأ كتاب "وإليكم التفاصيل" للإعلامي محمد كريشان، الذي صدر عن دار "جسور للترجمة والنشر" في بيروت، في 431 صفحة مع ملحق الصور، روى فيه الكاتب بعض ذكرياته عن مراحل مختلفة في مسيرته الإعلامية بين الصحافة المكتوبة والإذاعة ثم التلفزيون، وتناول مجموعة حكايات ومواقف عايشها على مدى 40 عامًا في كلّ من تونس وليبيا والعراق ومصر وفلسطين، وذكريات شخصية توثّق أجواء انطلاق قناة "الجزيرة" القطرية، التي شكلت قفزة كبيرة في فضاء الإعلام العربي، وتزامن صدور الكتاب مع احتفال القناة بيوبيلها الفضي.
اعتمد محمد كريشان لغة بسيطة وسهلة وغير معقدة في كتابته، واهتم بتقديم الأحداث وتحليلها. ويتكون الكتاب من مقدمة صغيرة، وسبعة فصول، حيث جاء الفصل الأول تحت عناوين: "تونس.. فجر الصحافة وليل السياسة"، والفصل الثاني "وبدأت الهجرة" ثم فصل "العراق.. زياراتٌ ومطبّاتٌ" و "فلسطين.. المهنة والوجع" ثم "تونس والجزيرة"، فيما يخصص الفصل السادس للكاتب محمد حسنين هيكل، ويخصص الفصل الأخير للمفارقات والطرائف.
يقول محمد كريشان إنه في الحديث عن تونس مثلا، أراد أن يدرك الشباب المستمتع طوال العشرية الماضية بحريّة التعبير والصحافة بعيدًا عن أجواء الخوف والرعب، أنّ الطريق لم يكن مفروشًا بالورود؛ فقد عرفت تونس عقودًا كانت فيها كتابة مقال نقدي للسلطة تُعد عملا بطوليًا غير مأمون العواقب، والهدف من ذلك أن يعرف الجيل الجديد القيمة الحقيقية للمكاسب فلا يقع التهاون في الذود عنها أو التفريط فيها. ويسرد كريشان تفاصيل مواكبة سقوط نظام زين العابدين بن علي، سواء في أجواء غرفة أخبار اتُهمت بأنها كانت وراء تأجيج الاحتجاجات ضده، أو عندما يذهب الكاتب إلى تونس مباشرة بعد ذلك لمواكبة التداعيات الأولى للحدث، والتي يبدو أنها ما زالت متحركة إلى الآن.
وعند الحديث عن العراق، يقدّم كريشان بعض التفاصيل اليومية للأسابيع الأولى بعد سقوط نظام صدام حسين ودخول القوات الأمريكية الغازية العاصمة بغداد في أبريل 2003، وكيف انهارت بسرعة مؤسسات دولة كاملة ظلت محكومة بقبضة حديدية لعقود؛ فقد كان العراقيون منهكين بحصار ظالم لم يترك لهم من مقومات الصمود أو التماسك شيئًا، ومع ذلك يقدّم كريشان روايات عديدة ومؤثرة عن عراقيين بسطاء ظلوا محافظين على مروءة قلّ نظيرها، رغم الصورة المشوّهة عن النهب والحرق والسرقة والقتل في تلك الأيام.
وعند الحديث عن فلسطين، يستعرض كريشان تجربة صحفي عايش مرحلة خروج المقاومة المسلحة من لبنان وانتقال مقر منظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس، وكذلك الغارة الإسرائيلية التي استهدفتها هناك مع اغتيالات طالت قياديين فلسطينيين بارزين، ثم بداية خوض تجربة التسوية بتفاصيلها. ويتناول بالتفصيل سفراته المتعددة إلى فلسطين، سواء الداخل أو الضفة الغربية وغزة، ليرى الأوضاع مباشرة على الأرض، بعيدًا عن العواطف والأماني، مع أحاديث ممتعة مع شخصيات فلسطينية من الوزن الثقيل عادت إلى أرض الوطن بعد عقود من اللجوء للخارج. وهناك كثيرون في العالم كتبوا عن الزعيم الراحل ياسر عرفات، ولكن من وجهة نظري أرى أنّ خير من كتب عن عرفات - عن فهم ودراية - هو محمد كريشان في كتابه هذا، وذلك من خلال معرفته به شخصيًا ومرافقته له إلى أمريكا في الطائرة الخاصة، التي أقلته لتوقيع اتفاقيات ما قيل عنها "اتفاقيات السلام" مع الجانب الإسرائيلي. وما كتبه كريشان عن عرفات يحتاج إلى مقال مستقل، وكذلك الكاتب محمد حسنين هيكل الذي خصّص له كريشان فصلا كاملا في كتابه، من خلال تعامله المباشر معه عبر لقاءات تلفزيونية، تجاوزت العشرين، قامت خلالها بينهما علاقةٌ شخصيةٌ وصفها بأنها "ودودة"، رأى أنه من الطريف سرد بعض تفاصيلها؛ "فلكثيرين فضولٌ كبيرٌ لمعرفة أشياء كثيرة عن الرجل المثير للجدل، الذي ظلّ يطل عبر شاشة الجزيرة لسنوات، كان من المحظور أن يظهر فيها على شاشات مصرية أو عربية أخرى". ويقول عن هيكل إنه كان يستعد لكلّ حلقة بجدية متناهية، بل إنه كان يستعّد لها وكأنه ذاهبٌ إلى امتحان، يراجع ما سيقوله، ويحضّر الأرقام التي سيقدّمها، والتواريخ التي سيستعرضها، والاقتباسات التي ستدعم آراءه.
لم يخل الكتاب من سرد حكايات شخصية لصحفي تقلب بين تجارب مختلفة في بلاده، وعانى فيها من البطالة لفترات نتيجة إيقاف الصحف التي كان يعمل بها، وفيها انتقل كذلك من الصحيفة إلى الإذاعة إلى التلفزيون، قبل أن يغادر تونس ويخوض غمار تجربته الخاصة في المهجر في قناة "البي بي سي" العربية في لندن التي توقفت، ثم في الدوحة مع قناة الجزيرة، التي عمل فيها منذ انطلاقها وحتى الآن. وفي هذا السياق يذكر كريشان ما قاله له باتريك نيكولاس ثيروس سفير الولايات المتحدة في الدوحة بين عام 1995- 1998، فحينما انطلقت المحطة بعث وقتها باتريك برسالة إلى واشنطن يقول فيها "إن صدَق القطريون فيما يعلنونه بخصوص هذه القناة الجديدة فإننا مقبلون على صداع كبير". كان السفير الأمريكي محقًا في توقعاته؛ فكلنا رأينا أنّ الصداع لم يصب القطريين فقط؛ بل تعداهم إلى الوطن العربي كله، ووصل إلى أمريكا نفسها التي فكرت في قصف مقر القناة، ولا أعتقد أنّ المسكّنات من "بنادول" و"أدول" وغيرها أفادت في تسكين هذا الصداع، فقد رأينا دولًا تحاصر قطر وكان من ضمن مطالبها، إغلاق قناة الجزيرة.
يستعرض محمد كريشان في كتابه "إليكم التفاصيل" ذكريات متفرقة لصحفي عرفه الناس على الشاشة وعبر صحيفة "القدس العربي" - حيث كنتُ متابعًا لمقالاته -، وهو من الكتب القليلة جدًا في الوطن العربي التي توثّق السيرة الإعلامية الشخصية وللمؤسسات الإعلامية وعلى رأسها قناة الجزيرة التي أثارت الجدل وما تزال. وبما أني عملتُ في مجال الإعلام لسنوات، فإني أرى أنّ كتاب "وإليكم التفاصيل" جديرٌ بأن يطلع عليه كلّ الإعلاميين خاصةً الجيل الجديد؛ فبعضُ ما جاء فيه قد يشكّل عنصرًا ملهمًا ومهمًا لمن يريد السير على درب هذه المهنة "الجميلة والمنهكة في آن واحد" كما وصفها كريشان. وإذا كان لفيروس كورونا إيجابية، فإيجابيته أنه أتاح لمحمد كريشان الوقت لتأليف هذا الكتاب، إذ يقول في المقدمة: "بصراحة لم أر نفسي يومًا في مكانة تسمح لي بأن أقدِم على خطوة تأليف هذا الكتاب، كما أنّ دوامة العمل والسفر المتواصل منذ الالتحاق بعالم التلفزيون بعد خروجي من تونس عام 1995، لم تكن لتسمح بترف الجلوس لكتابة أيّ شيء غير مقال أسبوعي في جريدة "القدس العربي" دأبتُ عليه منذ أكثر من عشرين عامًا. ومع إلحاح عدد من الأصدقاء استمرت مراوحة الكتابة هذه لأكثر من خمس سنوات إلى أن حصل ما لم يكن في الحسبان: فيروس يدعى "كورونا" يجتاح العالم ويبث فيه الهلع فيلزم الناس جميعًا بيوتهم ويوقف النبض العادي لسير العمل والحياة اليومية. ها هي أخيرًا المناسبة التي أسقطت مرةً واحدةً كلّ ما كنتُ أتحجج به من قبل؛ فلملمتُ كلّ ما كتبتُه متناثرًا عبر السنوات، وعدتُ أدقق في التواريخ وأشحذ الذاكرة لجمع أفكار وأحداث مبعثرة لأجلس أخيرًا لكتابة ما بين أيديكم حاليًا".
القارئ العربي أمام سيرة إعلامية ثرية ومثرية، تُعتبر إضافة مهمة إلى المكتبة العربية وإلى كتب السيرة والتوثيق.
