التغيير التاريخي للعلاقة الإيرانية-الروسية
كل المفاهيم القديمة التي أصبحت تحكم العلاقة الإيرانية-الروسية قد سقطت، وكل من يتمسك بها، فهو لم يرفع رأسه ليرى المتغيرات الواضحة الآن، أو أنه يغرق في الهواجس بين البلدين، ولم ينفذ إلى جوهر المتغيرات التي أصبحت تحكم مستقبل العلاقة بينهما، فموسكو وطهران قد انتقلتا من مرحلة الشكوك إلى الثقة، وينبغي على حكومات المنطقة عدم الإغراق في الهواجس والبناء عليها سياساتها واستراتيجياتها، وكل من يفعل ذلك سيجد كل ما يفعله ستبتلعه رمال سياسية متحركة، من هنا ندعو إلى فهم التغيير التاريخي في العلاقة الجديدة بين طهران وموسكو منذ 24 فبراير 2022، وهو تاريخ الحرب الروسية على أوكرانيا، وهذا تاريخ سيكون المحتوى الذي نستهدفه للتصويب، لأنه الناقل للصيرورات التاريخية على الصعيدين الإقليمي والدولي.
وحتى نتمكن من صناعة هذا الفهم سنحاول رصد أهم التغييرات وباختصار في محاور أساسية، ومن خلالها توصلنا إلى أن العلاقة الجديدة بين طهران وموسكو تشكل أكبر التحديات ليس لدول مجلس التعاون الخليجي فحسب، وإنما كذلك للغرب الذي يدور في فكه الخليج، ويركن إليه باطمئنان في استدامة أمنه واستقراره، وسنرى أنه ينبغي على الدول الخليجية الست الإسراع في تغيير المعايير الحاكمة لعلاقتها مع الغرب/ الأمريكي، وذلك عبر تغليب المنظور البرجماتي، وحتى لو اضطرت إلى تغيير بوصلتها من الغرب إلى الشرق، وقد يرى البعض أن هذه المطالبة من قبيل الاستفزاز، لكنه نتيجة منطقية مستخلصة من هذا المقال، ويستوجب البناء عليه اختياريا قبل أن تفرضه مجموعة إكراهات.
أهم هذه المحاور
موسكو وطهران تغيران خطوط الملاحة الدولية.
يتم ذلك عبر اتفاقهما مؤخرا على إقامة طريق تجاري بحري/ بري بقيمة 20 مليار دولار، وهو طريق يتحدى العقوبات الدولية، ولن تطاله سيطرة أي دولة أخرى، وسينقل التبادلات بين البلدين عبر الأنهار والسكك الحديدية المرتبطة ببحر قزوين «خبراء» ويمتد من الحافة الشرقية لأوروبا إلى المحيط الهندي بطول 3000 كيلومتر، ومن خلال متابعتنا لتفاصيل وأهداف هذا الطريق، وجدنا أنه سيحدث تحولات تاريخية في طرق التجارة العالمية، فقد أوضحت وكالات اقتصادية وخبراء أن ما يتم حاليا بين طهران وموسكو مثال على المنافسة بين القوى العظمى على إعادة تشكيل شبكات التجارة بسرعة في اقتصاد عالمي يبدو أنه مهيأ للانقسام إلى كتل متنافسة، ومن مثل هذه الرؤى نستشرف مدى صحة الآراء التي تذهب إلى نهاية العولمة والليبيرالية، وكل مؤشرات النهاية الآن قائمة مثل العقوبات والتكتلات التي تصنعها تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا.
ثانيا: طهران قوة سيبيرانية وعسكرية ستتفرد إقليميا.
الجديد في هذا الاستفراد، ما أعلنته موسكو مؤخرا عن استعداداها تعليم قرصنة الإنترنت في إيران على الكثير من الأمور التقنية حول شن هجمات أكثر تعقيدا ضد أهداف حساسة، مما سيعزز ذلك من قوة إيران الناعمة، ومن المعروف أن روسيا قوة سيبيرانية عظمى، وسيضيف هذا التعاون مع إيران إضافات نوعية على قوة طهران السيبيرانية المتقدمة بطبعها، مما تظهر طهران الآن كقوة سيبيرانية مخيفة للكيان الصهيوني، وتفاقم من تحديات دول المنطقة.
وهنا التساؤل، هل ستقوم واشنطن القوة الأولى سيبيرانيا بـ354 شركة تعمل في الفضاء الإلكتروني من أصل 500، بالتعاون مع دول الخليج العربية لصناعة التوازن مع جارتها إيران؟ أشك في ذلك، ورغم ذلك ليس هناك مبرر توجه دول خليجية نحو الكيان الصهيوني التي تمتلك 82 شركة، وهناك أمامها خيارات أخرى كثيرة.
كما سيكون الاستفراد الإيراني كذلك في القوة الجوية بعدما انفتحت موسكو على طلب إيراني قديم بالحصول على أنظمة دفاع جوي، ويرى الخبراء أنه إذا حصلت طهران على هذه الأنظمة المتطورة من موسكو، فسيصبح النظام الدفاعي الإيراني في أفضل تجهيز لإحباط أي هجوم محتمل في المستقبل على البنية التحتية النووية الإيرانية أو غيرها من المنشآت الاستراتيجية.
كما قررت موسكو فتح الباب أمام طهران للاستفادة من قدراتها المتقدمة في كل من الاستخبارات التصويرية والإشارات، ويرى خبراء أنه يمكن تزويد طهران بهذه القدرات أو مشاركتها في معلومات استخباراتية حساسة قد تساعد إيران في الدفاع عن نفسها بشكل أفضل، كما عبّرت موسكو عن نواياها بإقامة قواعد عسكرية في الضفة الإيرانية من هرمز، فيما تقول مصادر إنه قد أقامت قاعدة عسكرية روسية، فيما تنفيها طهران، وتؤكدها مصادر في البرلمان الإيراني، وذلك بهدف حماية المنشآت النفطية الإيرانية من أي اعتداءات خارجية، وكانت شركة غازبروم عملاق الطاقة الروسية قد وقعت مع إيران صفقة بقيمة 40 مليار دولار للمساعدة في تطوير حقوق الغاز والنفط في إيران.
ومما تقدم نرى أن العلاقة الإيرانية-الروسية الجديدة تبنى على ثقة وفق استراتيجية اقتصادية وعسكرية ذات نفع مشترك ومتبادل، بعيدا عن الهواجس التاريخية، وهذا لا يعني انتفاء تعارض المصالح الإيرانية والروسية، بل العكس، لكنه يعني وجود إرادة سياسية صلبة بينهما على تحييدها من أجل تأسيس العلاقة المستقبلية بعدما أثبتت طهران لموسكو أنها عامل ثقة يعتمد عليها بسبب موقفها من الحرب على كييف، ووفق ما تقول المصادر إن طهران زودت موسكو بطائرات مسيرة حدثت الفارق في ميدان المعركة بعد ما قد وضعتهما الظروف في مصير واحد بعد العقوبات الغربية/ الأمريكية على طهران وموسكو، واستهدافهما السياسي.
وكل ذلك يظهر لنا أنه قد تمت ترقية العلاقة بين إيران وروسيا إلى تحالف اقتصادي وعسكري، والتساؤل هنا يدور حول خيارات دول مجلس التعاون الخليجي؟ الخيارات ينبغي أن يحكمها مبدأين استراتيجيين هما: البرجماتية في تحديد أولويات مصالحها المعاصرة مع شركائها الغربيين، والراديكالية في رسم علاقاتها الإقليمية والدولية المستقبلية، وذلك من منطلق أن كل ما تم بناؤه قبل فبراير 2020 قد أصبح من الماضي، وأنه بعد هذا التاريخ ينبغي يتشكل برؤى مستقبلية غير مسبوقة.
وكم يظهر الفارق كبيرًا وبحجم السماء بين العلاقة الإيرانية-الروسية، ونظيراتها الخليجية-الأمريكية-الأوروبية، الأولى ذات نفع مشترك وتسخر كل إمكانيات وقدرات البلدين المتقدمة دون شروط أو اشتراطات أو إملاءات، والأخرى بنفعية مختلة وغير كاملة، وبابتزازات وتدخلات في الشؤون الداخلية الخليجية، واختراق نخبها كضغط عليها، والدليل البند الاجتماعي في الشراكة الأوروبية الاستراتيجية الجديدة مع الخليج، فقد أطلقنا عليه السم في العسل، وكذلك تحويل برنامج المساعدات لوزارة الخارجية الأمريكية لنشر الإلحاد في المنطقة، وهنا ينبغي أن يعلم الغرب الأمريكي أن للخليج الآن بدائل استراتيجية ممكنة وسهولة، فعليه أن يغير سلوكه السياسي قبل أن تحمل الشعوب الخليجية حكوماتها على تغيير بوصلتها من الغرب إلى الشرق، وعلى الغرب أن يتغير قبل أن يفقد مصالحه الاقتصادية والجيوستراتيجية، فلا يمكن الرهان طويلا على النخب السياسية الموالية لها في المنطقة، فزمن الثبات قد تغير ويحل محله الآن زمن الصيرورات، والصيرورات ستطال مستقبل الحكومات في أوروبا التي أصبحت تفقد الثقة الشعبية لصالح اليمين المتطرف، وقد ينظر للتحول للشرق على أنه ضمانة لمواجهة التحديات التي يفرزها تطوير العلاقة الاستراتيجية بين طهران وموسكو.
