التعليم مشروعا للنهضة.. «ملاحظات أوَّلية»

08 فبراير 2022
08 فبراير 2022

لا حاجة بنا إلى تأكيد القول: إن التعليم هو العامل الأساسي في نهضة الأمم. وقد بات هذا واضحًا للعيان لدى كل ذي عقل؛ إذ يكفي أن يلاحظ المرء البسيط أن الدول الأكثر تقدمًا هي نفسها الدول الأكثر جودة في التعليم، وأن الدول الناهضة حديثًا هي نفسها الدول التي وضعت نهضة التعليم على سُلم أولوياتها، وقطعت في هذا المسار شوطًا معتبرًا. ولا حاجة بنا أيضًا إلى تأكيد القول بأن وضع التعليم في العالم العربي يظل متدنيًّا، فليس هذا من قبيل الرأي المؤسس على انطباعات وشواهدَ عامة، وإنما هو حقيقة مؤسسة على الإحصاءات الدقيقة التي ترصد مكانة التعليم في الدول العربية بناءً على معايير مضبوطة تقوم بها مؤسسات علمية عالمية متخصصة في هذا الشأن، وهي مؤسسات تضع التعليم في العالم العربي - بدرجات متفاوتة - في أدنى درجات سُلم مقياس جودة التعليم. تلك مشكلة عويصة، سبق أن تناولت شيئًا منها في أكثر من مقال ودراسة علمية؛ ولكني أريد هنا أن أقف على ما هو عام في تلك المشكلة وسُبُل علاجها، من خلال نقاط موجزة تصلح كل منها لدراسات مسهبة، ولكنها تصلح - في الوقت ذاته - لأن تكون بمثابة مؤشرات توجيهية.

التعليم في العالم العربي لا يأتي ضمن الأولويات السياسية، في حين أنه ينبغي أن يحتل مكان الصدارة بوصفه المشروع النهضوي الأول، أي بوصفه مشروعًا قوميًّا لكل أمة ودولة، وهو ما يقتضي حدوث تغيير جوهري في سياسات الدول. وهنا سوف يُقَال: إن ما يكون له أولوية في أحوال الدول هو الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وذلك قول حق، ولكنه قول منقوص؛ لأنه يذكر نصف الجملة ولا يكملها بحيث نتبين ما يُكمل معناها: ذلك أن قوة الدولة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية مرهونة بمدى نهضتها وتقدمها في مراتب سلم الأمم، وتلك النهضة مستحيلة من دون تقدم التعليم فيها، ومن ثم العلم والفكر والفن. وذلك أمر يشهد به التاريخ على مر العصور، ويكفي شاهدًا عليه في عصرنا الراهن: النهضة السريعة في جنوب شرق آسيا في غضون عقود قليلة من خلال نهضة التعليم.

المال وحده لا يكفي لحدوث نهضة تعليمية؛ لأننا قبل رصد المال ينبغي أن نتساءل فيما ينبغي أن ننفقه بحساب؟ سيقول قائل: من أجل نهضة التعليم! وهنا سوف نسأله: وعلى أي أساس ينبغي أن نُقِيم نهضة التعليم؟ أفلا ينبغي أن تكون لديك أولًا استراتيجية للنهضة تحدد الأهداف من التعليم وسبُل تحقيق هذه الأهداف. لقد شاعت في عالمنا العربي مقولة رائجة هي: إن التعليم ينبغي أن يهدف في المقام الأول إلى تخريج مواطنين يسدون النقص في مواقع العمل والصناعة. وتلك مغالطة كبرى تتورط فيها الدول الناشئة؛ لأنها تتصور أن تخريج موظفين هي الغاية التي نسعى إليها من خلال التعليم، وذلك أسوأ أنواع التعليم بشهادة الأساتذة المتخصصين في هذا المجال (ومن شاء تفصيلًا في هذا الأمر، فليرجع إلى مقالي عن «محنة العلوم الإنسانية في الجامعات العربية»، المنشور أيضًا ضمن كتابي عن «أزمة الإبداع في ثقافتنا المعاصرة»). ينبغي إذن أن نتخلى عن هذا الفهم الخاطئ.

*الفصل في مرحلة التعليم الأساسي بين العلوم النظرية والعلوم التي تسمى «عملية» هو فصل تعسفي ضار بإمكانية تطور العملية التعليمية. ومن العجيب أن هذا الفصل أصبح مستقرًا في المرحلة الجامعية؛ بل أصبحنا نرى استعلاءً من المتخصصين في العلوم الدقيقة على المتخصصين في الدراسات الإنسانية في كليات الآداب وغيرها، وكأن هذه الدراسات في الآداب والفنون وغيرها هي دراسات لا فائدة فيها، ومن ثم يمكن الاستغناء عنها. مثل هذه النظرة الضيقة غافلة عما يُعرَف الآن بالتداخل بين المعارف والعلوم جميعًا. وتلك آفة قد ضربت العلوم الدقيقة في مقتل؛ لأنها حرمت دارسيها من التعرف على المعارف الإنسانية الواسعة التي يرتبط بعضها ارتباطًا وثيقًا بما يدرسون. وربما يكون هذا هو السبب في أن كليات العلوم الدقيقة (في مصر على الأقل) هي الكليات التي خرَّجت لنا حالات العنف الديني الذي ظهر إثر الربيع العربي: ذلك أن خريجي هذه الكليات- خاصةً كليات الطب والهندسة - لم يسمعوا شيئًا من الشعر، ولم يعرفوا شيئًا حقيقيًّا عن الفن، ولعلهم حتى لم يسمعوا بمقولة آينشتاين حينما سُئِل: لماذا تخيرت هذه المعادلة الرياضية عن تلك، مع أن كلتيهما صحيحة؟ فقال: ببساطة لأن هذه أجمل من تلك!

*وإذا ما استطعنا أن نحدد استراتيجيتنا وأهدافها، فإنه سيتبقى علينا أن نحدد التفاصيل في كل شأن من الشؤون من خلال خبرات المتخصصين الثقات والمرموقين من داخل العالم العربي ومن خارجه. وينبغي أن نضع هنا في اعتبارنا بعض الأولويات، منها على سبيل المثال: أن نتخلى عن كل ما يقوم على الحفظ والاستظهار، وأن نعتمد- بخلاف ذلك- على ما يقوم على الفهم والحوار والنقد؛ وأن نعتد بتدريس الفنون لطلبة التعليم الأساسي، على أن يكون هناك مرشدون يوجهون الطلبة إلى تعلم الفنون بحسب مواهبهم وقدراتهم. والأهم من ذلك كله ألا نستهين بمفهوم العلم نفسه، فنظنه مجرد تطبيقات تكنولوجية، من دون وعي بأن التكنولوجيا هي نتاج الإبداع في العلوم على المستوى النظري. تلك موجهات بالغة التعميم، ولكني أظنها أساسية.

سعيد توفيق كاتب مصري وأستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة

بجامعة القاهرة