التعاون الثقافي العماني المصري

20 مايو 2023
20 مايو 2023

تتميَّز سلطنة عُمان بعلاقات دبلوماسية وثيقة مع كافة بلدان العالم، لما لذلك من أهمية في بناء صلات وصداقات قائمة على حسن الجوار والتسامح، والحوار والتفاهم، والانفتاح على العالم، وهي المبادئ الراسخة التي لا تحيد عنها لتحقيق التنمية والالتزام بالقيم والتواصل المتوازن، وتعزيز العلاقات التاريخية، ولهذا فإنها تسعى دوما إلى ترسيخ هذه العلاقات من خلال تأسيس شراكات وتعاونات إقليمية ودولية، قائمة على تبادل الخبرات والمعارف وتطوير الاستثمارات.

وتأتي الزيارة الكريمة التي يقوم بها جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم إلى جمهورية مصر العربية، تلبية للدعوة الموجَّهة إلى جلالته من أخيه فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي، ضمن تلك الجهود التي تبذلها عُمان من أجل ترسيخ مبادئ الاحترام والتقدير لهذه الدولة العربية العريقة، لتدُّل على العلاقات التاريخية التي تربط البلدين منذ العصور القديمة التي تعود حسب العديد من المصادر إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد؛ حيث كانت القوافل التجارية تنقل اللبان والتوابل من عُمان إلى مصر.

ولعل الزيارة التي قام بها الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى عُمان في يونيو 2022، كان لها الأثر الكبير في توسعة آفاق التعاون المشترك في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية والتجارية؛ فما خرج به مجلس الأعمال المشترك واللجنة العمانية المصرية المشتركة حينها، يُسهم في تعزيز آليات العمل المشترك في هذه القطاعات والقطاعات التنموية الأخرى، ويسهم في تحقيق الاستثمار المشترك بين البلدين، لما لذلك من أثر بالغ الأهمية على التنمية وتطوير التعاون المشترك من أجل تحقيق تنمية مستدامة في كلا البلدين.

ولهذا فإن الزيارة اليوم تأتي وفق معطيات تنموية ورؤية واضحة، ضمن أهداف استراتيجية تقود إلى ترسيخ العلاقات السياسية من ناحية، واستثمار الإمكانات الاقتصادية، وفتح آفاق ورؤى جديدة تُسهم في التكامل الاقتصادي والتعاون الدولي من ناحية أخرى، الأمر الذي يضمن الحفاظ على الأمن الإقليمي الذي ينعكس على الأمن الاجتماعي والاقتصادي للدول، وبالتالي فإن حرص عُمان لبناء هذه الشراكات ينطلق من مصلحة المنطقة وأمنها واستقرارها، ثم الاستدامة التنموية في القطاعات الإنمائية كلها.

إن العلاقة بين سلطنة عُمان وجمهورية مصر العربية، لا تعتمد على الأبعاد الاقتصادية وحسب، فهناك علاقات اجتماعية وثقافية راسخة بينهما منذ القدم، وهناك تبادلات ثقافية عدة، منها ذلك الدور الثقافي والتربوي الذي قدمه الأزهر الشريف خلال بداية النهضة في عُمان، الذي كان له الأثر الكبير في إنتاج العديد من البرامج الثقافية المشتركة سواء على مستوى المؤسسات الثقافية الحكومية، أو المؤسسات الأكاديمية في كلا البلدين، الأمر الذي وسَّع آفاق التعاون الثقافي المشترك والاستفادة من البرامج الثقافية والرؤى الفكرية؛ إضافة إلى تلك التجارب المعنية بالآثار والمتاحف وترميم الوثائق والمخطوطات وتبادلها، وغيرها من التعاونات التي أسهمت في ترسيخ العلاقة الثقافية بين البلدين، وفتح آفاق العمل المشترك بينهما.

ولعل العلاقات الثقافية التي تجمع بين عُمان ومصر، تزداد أهمية في ظل التطورات المعرفية والتقنية التي يزخر بها العالم، إضافة إلى تلك الرؤى التي يتطَّلع إليها البلدان ويسعيان إلى تحقيقها؛ فالتنمية الثقافية اليوم تواجه العديد من التحديات التي توجب تكامل الجهود وتبادل التجارب الناجحة، من أجل التعاون المشترك الفاعل. إن الكثير من التحديات التي تواجهها الثقافة، تنطلق من مفاهيم مشتركة بين الدول العربية، وتتأسس على القيم والأخلاق والتاريخ الأصيل الذي يميَّزها، ولهذا فإن التعاون الثقافي المشترك بين البلدين عليه أن يتخذ أشكالا جديدة، تقود إلى تنمية ثقافية قادرة على تأسيس برامج استثمارية خاصة في مجال الصناعات الإبداعية والثقافية، ودعم المواهب الثقافية الشابة.

ولهذا فإن هناك الكثير من البرامج التي يمكن أن يتم فيها التعاون المشترك، فتجربة (صندوق التنمية الثقافية) في مصر، تُعد من التجارب الناجحة التي يمكن الاستفادة منها؛ فمنذ إنشائه في العام 1989م، وهو يقدِّم دعما بارزا في تحقيق مفاهيم هذه التنمية في المحافظات المصرية المختلفة، فقد (بلغ عدد المكتبات التي أنشأها الصندوق في أماكن لم يكن من المتصور إقامة مثل هذه المكتبات فيها حوالي 90 مكتبة) - حسب موقع وزارة الثقافة المصرية -، إضافة إلى تجربة تحويل المواقع الأثرية بعد ترميمها إلى مراكز إبداع فني، أسهمت في تنمية المواهب وتمكين الشباب ودعمهم، إذ بدأت التجربة في (بيت الهرواي) واستمرت حتى بلغ عدد مراكز الإبداع الفني (16) مركزا.

إن هذه التجربة من التجارب التنموية التي يمكن الاستفادة منها في دعم التنمية الثقافية في عُمان؛ فعلى الرغم مما تقوم به الأندية الرياضية والاجتماعية والثقافية من دور في المحافظات، إلاَّ أن تنمية القطاع الثقافي يحتاج إلى الكثير من التركيز في إنماء المجال الإبداعي واكتشاف المبدعين والموهوبين اللذين يمكن العمل على دعمهم وتمكين قدراتهم، خاصة وأن هناك أعدادا كثيرة من الشباب العمانيين ممن يملكون هذه المواهب، ويحتاجون إلى تهيئة البيئة المناسبة، وتقديم التدريب والتأهيل المناسب.

ولأن مصر من أوائل الدول العربية، بل هي الأولى عربيا في مجال إدارة القطاع الفني سواء على مستوى الدراما أو المسرح أو الفنون السمعية والبصرية، فإن الاستفادة من تجربتها في إدارة هذا المجال في عُمان، يُعد من الضرورات، لا سيما وأن الاستثمار في القطاع الثقافي من أبرز أهداف الرؤية الوطنية «عمان 2040»، ولعل إيجاد برنامج ثقافي مشترك يعمل على تبادل الخبرات والتجارب في المجالات الفنية سيكون له الأثر الكبير في انتعاش هذا القطاع، وإيجاد وسائل وآليات إدارية تمكِّن الجمعيات والفرق الأهلية من إدارة استثمار هذه الفنون من ناحية، وتشجِّعها على الإنتاج الإبداعي والثقافي من ناحية أخرى.

إن الاستفادة من التجربة المصرية في المجالات الثقافية عامة، والفنية بشكل خاص، سيكون ضمن مجموعة من التبادلات والتعاونات السابقة التي تمت بين البلدين؛ فقد تم تأسيس العديد من البرامج المشتركة بينهما، خاصة تلك التي تمت خلال الأعوام (2003- 2006)، ومذكرات التفاهم التي أنعشت التعاون بينهما وأثرته، ولهذا فإن العمل الثقافي المشترك، عليه أن يتخذ اليوم آفاقا جديدة، يمكن للبلدين الاستفادة منها في ظل التحديات التي تواجه ثقافة الدول العربية، وقدرة مشروعاتها الإبداعية على الصمود والاستدامة، إضافة إلى الإشكالات التي يواجهها المبدعون والمهنيون في هذا القطاع.

إضافة إلى ذلك فإن توسعة آفاق التعاون والتبادل الثقافي لا يكمن فقط في التبادل المعرفي والتجارب الفنية، بل يتعداها إلى التبادلات التجارية في السلع الثقافية الخاصة بالنشر والطباعة والترجمة، والآلات الفنية والموسيقية وكل ما يتعلق بالسلع والمنتجات البصرية والسمعية، إضافة إلى التعاون المشترك في إنتاج تلك السلع والمنتجات وتصديرها، خاصة في ظل التطورات التقنية التي مكَّنت السوق التجاري الفني، وطوَّرت من إنتاج هذه السلع والخدمات الثقافية المساندة لها، إضافة إلى نشرها وتسويقها، وما يصاحب ذلك من إمكانات تجارية واستثمارية واسعة في القطاع الثقافي عامة.

إن سلطنة عُمان وجمهورية مصر العربية تملكان مقومات حضارية وفكرية وتقنية تمكنهما من التعاون المشترك والتبادل في القطاع الثقافي والإبداعي، وهو قطاع يحمل الكثير من الآمال التي تنتظرها رؤى البلدين، سواء من خلال تنميته أو استثماراته الإبداعية، أو على مستوى إنتاج السلع الثقافية والمنتجات المساندة لها وتصديرها.