التعاون الثقافي العماني السعودي

10 يوليو 2021
10 يوليو 2021

«إن الثقافة حاجة أساسية، يعيش بها المجتمع ويموت بدونها». هكذا بدأ الاتحاد الدولي لجمعيات ومؤسسات المكتبات (إفلا)، تقريره الخاص بـ(برنامج إعادة بناء التراث الثقافي بعد فترات الكوارث)، وهي العبارة التي تختصر إمكانات الثقافة وأهميتها في المجتمعات الإنسانية، ولهذا فإن الثقافة هي البوابة الرئيسية التي تمكِّن المجتمعات من تشكيل هُوياتها الوطنية، وتماسكها الاجتماعي، وهي أيضا التي تحدد الأنماط الاقتصادية التي تقوم عليها؛ فثقافة أفراد المجتمع تحدد آفاقه التنموية المستقبلية وتطلعاته الإنمائية.

ولعل هذا ما جعل دول العالم تهتم بقطاع الثقافة من خلال تنميته وتطوير آفاقه، وتعزيز مكانته بما يضمن دعم هُويتها، وقدرتها على تمكين المبدعين المشتغلين في هذا القطاع. الأمر الذي عزز إمكانات التعاون المشترك بين دول العالم بما يخدم الأهداف المشتركة، فالثقافة فاتحة للحوار والسلام مع العالم؛ لأنها قادرة دون غيرها من القطاعات على تهيئة البيئة للاندماج والمشاركة الفاعلة بين المجتمعات، وهي التي تهيئ مجالات التنمية المستدامة في شتى المجالات.

لهذا فإن الثقافة هي الركيزة الأساسية للخطط الإنمائية كونها الأساس الحضاري الذي تقوم عليه المشروعات والمبادرات التنموية؛ ولما كانت رسالة الاستراتيجية الثقافية لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربي 2030 هي «تعزيز برامج وأنشطة العمل الثقافي المشترك الرامية إلى تحقيق البناء الحضاري للإنسان، وتهيئة البيئة المناسبة للإبداع الثقافي، والاستفادة القصوى من الممارسات والخبرات الثقافية إقليميا ودوليا»- بحسب كتاب الاستراتيجية - فإن ذلك لا يتحقق سوى بالخطط الإنمائية التي تجعل من الثقافة قدرة حضارية، تسهم في رفد المجتمعات بالخبرات الوطنية القادرة على تبادل المعارف والمهارات من خلال التدريب والتعليم الثقافي والفني والمشاركات الثقافية الفاعلة ضمن العمليات التشاركية سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي.

ولأن الثقافة تنتعش بالممارسة والتطوير فإنها كذلك تحتاج إلى التجديد عن طريق الإبداع والابتكار وتبادل الخبرات ونقلها؛ ولهذا فإن البرامج الإنمائية للتبادل الثقافي تقوم في الأصل على المشاركة والإفادة من تجارب المجتمعات الأخرى وفرصها المهارية في شتى المجالات الثقافية. الأمر الذي يتيح لهذا القطاع إمكانات اكتساب الكفاءات المهنية وتدريب الشباب وتمكينهم، وتطوير مجالات الثقافة بما يضمن استدامتها من ناحية وإبداع أنماط ثقافية جديدة تواكب المتغيرات الحضارية والتقنية الحديثة من ناحية أخرى. ولهذا فإن سلطنة عُمان حرصت على مبدأ التشارك وتبادل الخبرات من خلال مجموعة من البرامج والمبادرات الثقافية والانضمام إلى العديد من الاتفاقيات الإقليمية والدولية، إضافة إلى إبرام مذكرات التفاهم الثقافية مع العديد من الدول العربية والأجنبية. مما يجعلها ضمن الدول الرائدة في مجال التأصيل الثقافي من خلال الحفاظ على ثقافتها العمانية العربية الأصيلة وفتح آفاق تطوير مجالاتها وتنميتها.

ولقد أفادت التنمية الثقافية في عُمان من خبرات دول الخليج العربي من خلال مشاركات الأمانة العامة لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربي؛ حيث شاركت في العديد من الفعاليات والمبادرات والأنشطة التي أثرت القطاع الثقافي لدول المجلس وأسهمت في إضافة العديد من التطورات في مجال حوكمة قطاع الثقافة، وصون التراث الثقافي، وتحفيز الاستثمار في الثقافة والأنشطة الاقتصادية المرتبطة بهذا القطاع، إضافة إلى المساهمة في مجال دعم السياحة الثقافية والتنوع البيئي وغير ذلك من المجالات المرتبطة بهذا القطاع. ولعل ما نأمله اليوم من تعاون مشترك بين السلطنة والمملكة العربية السعودية يأتي ليشكل ثمرة التبادل المشترك بين دولتين من دول المنطقة، تربطهما قواسم حضارية مشتركة، وبالتالي آفاق مستقبلية ذات رؤى واضحة، طموحة نحو تحقيق أهداف تنموية رائدة.

فما نشهده اليوم من تعاون مشترك بين السلطنة والمملكة العربية السعودية هو نتاج لمجموعة من العوامل الثقافية والحضارية، والآفاق التي يعقدها الشعبان من خلال رؤية عمان 2040، ورؤية السعودية 2030، وهي رؤى تجعل من تمكين الإنسان ورفاهيته، ركيزة أساسية للتنمية المستقبلية. لذا فإن الثقافة اليوم تقف ضمن تلك المجالات التي سيعتمد عليها التعاون المشترك بين البلدين؛ فعُمان التي تجعل من (مجتمع معتز بهويته وثقافته وملتزم بمواطنته) توجها استراتيجيا في رؤيتها، وتؤسس عليه مجموعة من الأهداف الطموحة للعمل الثقافي الإبداعي في السلطنة والاستثمار في الصناعات الثقافية، وغيرها من الأهداف التي بدأت بالفعل في العمل على تحقيقها من خلال مجموعة من الشراكات المجتمعية، ستعقد تعاونا مع المملكة العربية السعودية التي جعلت من الثقافة أول محاورها ضمن محور (مجتمع حيوي)؛ وهو محور يضم (دعم الثقافة والترفيه)، و(تمكين المجتمع)، و(تطوير المدن)، و(تحقيق استدامة البيئة) وغير ذلك من التوجهات الثقافية التي جاء من بين أهدافها (ارتفاع إنفاق الأسر على الثقافة والترفيه داخل السعودية إلى 6%)، مما يعني زيادة الدخل الوطني من إيرادات الثقافة.

وقد ورد في وثيقة (إنجازات رؤية المملكة 2030) ما بين (2016 -2020)، إن ما تم إنجازه خلال هذه المدة في مجال الثقافة يبدأ من (تأسيس وزارة مختصة بالثقافة في العام 2018 ، ثم إحدى عشرة هيئة ثقافية مستقلة، يتخصص كل منها في مجال من مجالات الثقافة (الأفلام، والمتاحف، والموسيقى، والفنون البصرية، والأزياء، وفنون الطهي، والمكتبات، وفنون العمارة والتصميم، والتراث، والمسرح والفنون الأدائية، والأدب والنشر والترجمة)، بالإضافة إلى تأسيس مجمع الملك سلمان للغة العربية، ومسرح المرايا، والاهتمام بأعمال البحث والمسح والتنقيب الأثري في محافظة العُلا، وإدراج خمسة مواقع تراثية ضمن قائمة التراث العالمي في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، إضافة إلى برامج ترميم المواقع الأثرية، وإطلاق العديد من البرامج منها برنامج (حماية)، المعني بـ (تفعيل الشراكة المجتمعية وتعزيز الوعي بأهمية الحفاظ على التراث الثقافي...)، وزيادة حركة التأليف والنشر وتأسيس (البنية التحتية لقطاع الأفلام).

إن هذه المنجزات التي نفذتها المملكة العربية السعودية خلال أربع سنوات من إطلاق رؤيتها جديرة بالاهتمام، وإذا ما عرفنا أن السلطنة قد أنجزت العديد من تلك الإنجازات وغيرها منذ سنوات عدة خاصة في مجال صون التراث الثقافي المادي وغير المادي، فإن علينا الاستفادة من تجارب المملكة في مجال الصناعات الإبداعية التي انطلقت في الاستثمار فيها برؤية سريعة وواضحة؛ فتجربة السعودية في بناء الشراكات المجتمعية بين القطاع الحكومي والخاص جعلت من هذه الصناعات تتجه نحو الريادة في المنطقة بسبب تركيز العمل في صناعة الأفلام، والدراما والموسيقى وغيرها من المجالات الفنية التي استثمرت فيها. ولهذا فإن عقد تعاون مشترك بين السلطنة بتجاربها الواسعة في المجال الثقافي وإمكاناتها الإبداعية في شتى مجالات الثقافة وبين المملكة العربية السعودية، سيجعل من الدولتين مجالا خصبا لتأسيس الشراكات الإبداعية والشركات الثقافية سواء على المستوى الأدبي أو الفني أو الطباعة والنشر أو الترجمة، أو حتى على مستوى الصناعات الإبداعية الحِرفية.

إننا اليوم نشهد تعاونا حضاريا وثقافيا بين دولتين شقيقتين، لهما تاريخ حافل ومستقبل تؤسسه الرؤى الحكيمة والنظرة الثاقبة التي تنظر إلى الثقافة باعتبارها إمكانا معرفيا وقدرة استثمارية تعزز من مكانتيهما، وتعظِّم الفرص المعرفية والتدريبية من خلال تبادل الخبرات والمهارات بما يخدم أهداف الرؤى الاستراتيجية للدولتين ويحقق أهدافها.