التصويت وآفاق المجتمع

28 أكتوبر 2023
28 أكتوبر 2023

تعد انتخابات مجلس الشورى في عُمان واحدة من مظاهر النمو المعرفي والوعي الديموقراطي الذي نشده اليوم ضمن هذه التظاهرة الوطنية، التي أسَّست مفاهيم الانتخاب، ورسَّخت العلاقة بين المترشح والناخبين وفق مبادئ أخلاقية تعود إلى القيم المجتمعية والثقافة النيابية التي ترسخَّت منذ سبعينيات القرن الماضي، فهي علاقة قائمة أو عليها أن تقوم على الموضوعية والمصلحة العامة.

إن الانتخابات جزء من الممارسة المجتمعية القائمة على الأهداف والأولويات الوطنية، ولعل ما شهدناه وتابعناه ضمن البرامج الانتخابية للمرشحين، ينم عن وعيهم بما يحتاجه الوطن في مرحلته التنموية القادمة. إنها برامج تكشف عن اطلاعهم كلهم أو غالبيتهم على مرتكزات التنمية ضمن الرؤية الوطنية عمان 2040، ولهذا فإن العلاقة بين المترشح والناخب اليوم عليها أن تقوم على قدرة هذا المترشح أو ذاك وخبراته وإمكانات مساهمته الفاعلة والإيجابية للقيام بدوره في تحقيق أهداف تلك الرؤية.

وعلى الرغم من مبالغة الكثير من المترشحين في وضع أهداف قائمة على رؤى عامة، إلاَّ أنها تكشف معرفتهم عموما بمهام المجلس واختصاصاته، الأمر الذي يجعل من البرنامج الانتخابي ليس مجرد وعودا على المترشح الوفاء بها وحسب، ولكنها قاعدة أساسية تربطه بالناخبين من حيث علاقتها بمصالح المجتمع وتوجهاته. إنها قيم جوهرية يشاركها مع مجتمعه ومنتخبيه، بُغية المساهمة في تحقيقها أو السعي من أجل ذلك، إضافة إلى أنها تمثِّل المواقف والاتجاهات الداعمة للتغيير الإيجابي والمشاركة المجتمعية القادرة على ذلك، وعلى الرغم من أن المترشحين اجتهدوا جميعا في إبراز تلك المواقف والاتجاهات ضمن برامجهم الانتخابية حسب ما يرونه من أولويات مجتمعاتهم، إلاَّ أن الكثير من تلك البرامج تقدِّم أطروحات تحتاج منَّا نحن الناخبين إلى التمعن خوفا من الوقوع في فخ الإثارة.

فالبرامج الانتخابية على أهميتها، فإن قدرتها على إقناع الناخبين هو الأساس الذي يجب أن تقوم عليه؛ ذلك لأنها رسالة المترشح وصوته الذي يوصله إلى الناخبين، فإذا لم تكن مبنية على الواقع وإرادة المساهمة الفاعلة في تطويره، فإنها برامج غير قادرة على الوصول أو حتى تحقيق الهدف. إن البرامج الهادفة تلك التي تبني الثقة بين المترشح والناخبين، وتؤسس لعلاقة قائمة على المصداقية والموثوقية، وذلك لن يتم سوى باتباع آلية مهنجية تتناسب مع احتياجات المجتمع وآفاق تصوراته وما يرتجيه من رؤى مستقبلية.

إلاَّ أن السؤال الأهم هنا يكمن في كفاية البرامج الانتخابية لاختيار هذا المترشح أو ذاك حتى وإن تأسَّست وفق معطيات مجتمعية ووطنية؟ ولعل الإجابة عن هذا السؤال ليست بالسهلة؛ فهناك الكثير من المرتكزات المجتمعية التي قد تتدخَّل وتفرض نفسها، على الرغم من الوعي المجتمعي العام، ولهذا فإن علينا اليوم أن لا نستسهل ضغط الزر على اختيار المترشح الذي يمثلنا، وعلينا أن نضع مصلحة الوطن فوق أية مصلحة أخرى، فالتصويت على سهولته غير أنه يحملِّنا مسؤولية كبرى تجاه أنفسنا ومجتمعنا.

ولهذا فإن علينا جميعا اختيار من يمثلنا بموضوعية تامة، لأنه لا يمثِّلنا باعتبارنا أفراد ومجتمعات بل يمثِّل قوة التطوير والتغيير التي تقوم بمسؤلية كبرى تجاه الوطن؛ فمهام أعضاء مجلس الشورى تحتاج إلى قدرات وطنية متعلمة مثقفة منفتحة ذهنيا ومعرفيا، متطلِّعة نحو توجهات حديثة تتواءم مع ما يطمح إليه المجتمع وما يحتاجه من متغيرات تنموية.

إن عضويات المجلس للمرحلة القادمة من حياة الوطن، تحتاج منَّا التفكير مليَّا قبل التصويت، كما يحتاج إلى تحررنا من القيود المجتمعية والقبلية والإثنية، واضعين نصب أعيننا المصلحة الوطنية ومستقبل الشباب واحتياجات المجتمع، لذا علينا التصويت وفق معطيات وطنية راسخة هدفها الوطن ولا شيء غيره، فالوطن يحتاج إلى مجلس قادر بأعضائه وفاعليتهم ليُسهم في تحقيق مهامه التشريعية والنيابية التي نصَّ عليها قانون مجلس عمان.

لقد أصبحت الانتخابات في عُمان ممارسة وطنية يتحمَّل مسؤوليتها المجتمع، وهو وحده القادر على حسمها، لهذا فإن ما يعوَّل عليه اليوم هو وعي أفراده، وإرادتهم التي ينبغي أن تكون البارزة والفاعلة، والقادرة على اختيار الأنسب، والأمر هنا لا يتعلَّق بالبرامج الانتخابية ومعرفتنا الواعية بالمترشِّح وحسب، بل أيضا بمدى مناسبته وقدرته على المشاركة الفاعلة، وتمثيل مجتمعه بإيجابية واعية.

إن مهام مجلس الشورى التشريعية والرقابية وأدواته المنصوص عليها في قانون مجلس عُمان، تجعله يضطلع بدور محوري في التنمية الوطنية، إذ يدفع عجلة التنمية في الوطن، ويقدِّم مساهمات أساسية في بناء المجتمع السليم من ناحية، ويدعم الرفاه والحماية لأفراد المجتمع من ناحية أخرى، فالأعضاء المنتخبين هم نوَّاب عن أفراد مجتمعهم من خلال ما يمثلونه من تشاركية وشمولية قادرة على المساهمة في تحقيق التنمية الوطنية.

يُقدَّم تقرير (دور البلرلمان في تنفيذ أهداف التنمية المستدامة)، الصادر عن منظمة الأمم المتحدة، استعراضا مهما عن أدوار المجالس النيابية في تحقيق أهداف التنمية المستدامة من خلال مجموعة من المرتكزات تقوم على ما أطلق عليه بـ (التوطين)؛ وهو إطار منظِّم للعمل، يقدِّم مجموعة من الأدوار التي يمكن للبرلمانات الإسهام من خلالها في دعم التنمية في المجتمعات؛ فهذه البرلمانات لديها أدوات رقابية وتشريعية يمكن من خلالها إحداث تغيير في منظومة السياسات والتشريعات التي تفتح آفاق العمل التنموي، وتُحدث تطويرا على المستوى الاجتماعي والاقتصادي في الدولة.

ولهذا فإن الدور الذي يقدمه مجلس الشورى يتوجَّه مباشرة نحو التنمية التي أساسها الناس، وعليه فإن المترشِّح ملتزم بتلك المساهمة لأنه يمثِّل أفراد مجتمعه من خلال ما يقدمه من مساهمات وما يحدثه من تغيير وتطوير في منظومات التنمية الوطنية في كافة المجالات، ذلك لأن المجلس مرآة المجتمع، وصوته، ولهذا فإن المجتمع سيسآئله عما أنجزه وما قدَّمه ضمن أهداف التنمية المستدامة، والتشجيع والدعم من أجل تحقيق فاعلية التنمية ودعم تطلعاتها.

إن أهداف المترشحين لعضويات المجلس تنطلق من تطلعات ناخبيهم، وتشاركيتهم وشفافيتهم مع ما يقدمونه من برامج ورؤى تتوافق كليا أو جزئيا مع الأهداف الوطنية. والحال أن انتخاب الأعضاء يقوم على إمكاناتهم للمساهمة في التنمية الواعية، خاصة مع ما يتطلَّع إليه المجتمع من آفاق، وما يأمله من تطوير يضيف إلى ما تشهده عُمان من تطوُّر ملحوظ في كافة القطاعات، الأمر الذي يفتح لأعضاء المجلس بعد الترشُّح أبواب واسعة للمشاركة في هذا الحِراك التنموي الواعد.

ولأن الناخبين اليوم هم المسؤلون أمام الوطن، فإن دورهم تشاركي وفاعل في تحقيق التنمية، ليس فقط كونهم مواطنين يؤمنون بالديموقراطية وحرية التصويت، بل لأنهم قادرين على اختيار الأنسب والأصلح لتمثيلهم في المجلس النيابي الذي يتكلم بصوتهم وآمالاهم وتطلعاتهم. فلتكن مصلحة الوطن هي القائد الذي يقود اختيارنا للأصلح والأكثر قدرة من المترشحين لعضوية المجلس، فهدفنا المشترك هو المساهمة الإيجابية الفاعلة لمن نختارهم من الأعضاء ليكونوا صوتا وطنيا مشاركا في التنمية.