التزييف العميق.. كيف نواجهه؟

26 مارس 2024
26 مارس 2024

في مساء الثامن عشر من فبراير عام 2022، بث موقع إخباري أوكراني مقطع فيديو لرئيس أوكرانيا فلاديمير زيلينسكي وهو يلقي خطابًا يعلن فيه انتهاء الحرب مع روسيا، وهي المعلومة التي كانت غالبية الشعب الأوكراني تعلم أنها كاذبة. وبينما كان هذا يحدث عبر الإنترنت، كان الشريط الإخباري الموجود أسفل الشاشة في البث التلفزيوني المباشر للقنوات التلفزيونية التي نقلت الخبر يحمل الرسالة نفسها التي تقول إن أوكرانيا قد استسلمت. وهو ما لم يحدث وقتها ولا في أي وقت وحتى الآن.

كان هذا الحدث غير المسبوق بداية لمسار جديد لإعادة كتابة تاريخ الدعاية، خاصة السياسية منها والحربية، ودخول آليات جديدة ليتم توظيفها في تشويه الحقائق، أهمها حاليا تقنية التزييف العميق المعروفة باسم «ديب فيك»، والتي تسمح للأشخاص بإنشاء صور ومقاطع فيديو لأحداث لم تحدث أبدًا، ونشر هذه المعلومات المضللة والخاطئة و«الأخبار المزيفة» على منصات التواصل الاجتماعي وفي أماكن أخرى عبر الإنترنت، وهو الأمر الذي جعل منها أداة مهمة في الحروب والصراعات الدائرة في العالم. وتعتمد هذه التقنية بشكل كبير على التطورات في مجال الذكاء الاصطناعي، خاصة في مجال تعلم الآلة والشبكات العصبية، والتي جعلت من الممكن إنشاء محتوى وهمي وزائف ومقدم بالكامل، وذلك من خلال تدريب الخوارزميات على التعامل مع كميات هائلة من البيانات.

ما أبعد اليوم عن الأمس.. وما أبعد تقنية التزييف العميق من كل أساليب الدعاية البسيطة السابقة عليها، والتي تم استخدامها في الحربين العالميتين وبعدهما في الحرب الباردة والحروب الثنائية والإقليمية المختلفة التي شهدها العالم. كانت الدعاية قبل التزييف العميق تتم بالكلمات في المقام الأول، وكان من أكثر أساليبها تأثيرًا، خاصة في تحقيق هدف نشر الكراهية ضد العدو، هو استخدام القصص الوحشية التي يروجها الطرفان المتحاربان. وقد استطاع الحلفاء في الحرب الأولى أن يحققوا نجاحًا كبيرًا في نشر كراهية الألمان من خلال قصة أن الجنود الألمان في بلجيكا كانوا يقطعون أيدي الأطفال. وكانت هذه القصة وغيرها من القصص الوحشية تمثل جزءًا رئيسيًا في الخطابات التي كان يُلقيها رجال الدعاية أو من عرفوا باسم «رجال الدقائق الأربع» في صالات السينما في الولايات المتحدة، والتي كانت تحوي قصصًا مدتها لا تزيد عن أربع دقائق، وكانت أغلب هذه القصص الوحشية زائفة، ومع ذلك فقد لعبت دورًا مهمًا في جعل دعاية الحرب العالمية الأولى مؤثرة بسبب تصديق الناس لها. ولعل هذا ما دفع اثنين من الباحثين الأمريكيين هما «موك جي، وسي لاريسون» قبل اندلاع الحرب الثانية إلى إصدار كتاب مهم عن تأثير دعاية الحرب الأولى حمل عنوان «الكلمات التي حققت النصر في الحرب». الآن يبدو رجال دعاية الدقائق الأربعة كما لو كانوا معدومي الحيلة عندما نقارنهم بمن يستخدمون حاليا التزييف العميق للتأثير في الرأي العام وكسب الحروب دون عناء.التزييف العميق في حقيقته يمثل شكلًا من أشكال الذكاء الاصطناعي الخطير، يسمى التعلم العميق لإنشاء صور لأحداث مزيفة، ويعني التلاعب بمقاطع الفيديو باستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي والتي عادةً ما تتضمن خليطا من المحتوى الحقيقي والمزيف مما يجعلها تبدو أكثر واقعية وإقناعًا من مقاطع الفيديو التي تم إنشاؤها بالكامل باستخدام الذكاء الاصطناعي. وعلى سبيل المثال، يمكن لتقنية التزييف العميق التقاط مقطع فيديو حقيقي وتبديل وجهي شخصين في هذا الفيديو أو تغيير حركات الشفاه بحيث يبدو الشخص وكأنه يقول شيئًا مختلفًا عما قاله في الأصل.

لقد زاد انتشار مقاطع الفيديو المزيفة العميقة عبر الإنترنت على مدى السنوات الخمس الماضية، كما أن الاكتشاف التكنولوجي لمقاطع الفيديو المزيفة العميقة ليس دقيقًا في الوقت الحالي بما يكفي ليكون حلًا في حد ذاته. ولذلك من المهم تشجيع الثقافة الإعلامية الجيدة لدى الأفراد لتحقيق التوازن بين الشك الصحي وغير الصحي فيما يشاهدون أو يقرأون أو يسمعون.

وتتيح تكنولوجيا التزييف العميق إمكانية إنشاء صوت وفيديو لأشخاص حقيقيين يقولون ويفعلون أشياء لم يقولوها أو يفعلوها مطلقًا. وتعمل تلك تقنيات التعلم الآلي على تعقيد التكنولوجيا، مما يجعل التزييف العميق أكثر واقعية وأكثر مقاومة للاكتشاف. وتتميز تكنولوجيا التزييف العميق بخصائص تمكن من الانتشار السريع والواسع النطاق، مما يجعلها في أيدي جهات فاعلة عديدة بما فيها حكومات الدول وأجهزة المخابرات، التي يمكن أن توظفها في تشويه المعارضين وربما تلفيق القضايا الجنائية والأخلاقية لهم.

وفي حين أن تقنية التزييف العميق ستجلب معها فوائد معينة، إلا أنها ستؤدي أيضًا إلى العديد من الأضرار، خاصة أن سوق الأفكار يعاني بالفعل من غياب الحقيقة، حيث تتفاعل بيئة المعلومات الشبكية لدينا مع تحيزاتنا المعرفية. وسوف تؤدي التزييفات العميقة إلى تفاقم هذه المشكلة بشكل كبير. وسيواجه الأفراد والشركات والدول أشكالا جديدة من الاستغلال والترهيب والابتزاز الشخصي والجماعي. ويجادل البعض بأن التكنولوجيا الجديدة لها إيجابيات منها أن المنتجات المزيفة تعطي الفرصة للفنانين للإبداع الفني، إلى جانب إمكانية استخدامها لأغراض تعليمية. وفي رأينا أن أضرار التزييف العميق تفوق فوائدها بمراحل، وتشمل هذه الأضرار الأفراد والجماعات والمؤسسات والدول، كما أنها تضرب استقرار المجتمعات السياسي والاقتصادي والاجتماعي من خلال تزييف وتشويه المناقشات السياسية، والتلاعب بالانتخابات، وتآكل الثقة في المؤسسات الحكومية، وتفاقم الانقسامات الاجتماعية، بالإضافة إلى الأضرار التي قد تلحق بالأمن الوطني وتؤثر سلبا على العلاقات الدولية للدولة.في عصر التزييف العميق من الطبيعي أن تتزايد المخاطر التي تهدد الأمن القومي للدول بشكل كبير. ولعل هذا ما يدعونا إلى مطالبة دولنا العربية ألا تتأخر كثيرا في مواجهة هذه التقنية، واستخدام كل الأساليب الممكنة للتصدي لها سواء كانت الحلول تكنولوجية أو قانونية مثل تجريم هذا التزييف وفرض العقوبات الجنائية على من يقوم به، وتحميله المسؤولية المدنية، إلى جانب استخدام الإجراءات التنظيمية؛ وفرض العقوبات الاقتصادية على الأشخاص والمؤسسات والشبكات التي تمرر ذلك التزييف.

هناك حاجة إلى النظر بعين الشك إلى منتجات التزييف العميق شديدة التحريض، وانتظار التحقق من مثل هذه القصص الإخبارية من خلال مصادر متعددة جديرة بالثقة. على الجانب الآخر يجب على الأشخاص توخي الحذر حتى لا يتهموا مقاطع الفيديو الحقيقية بأنها مزيفة بعمق. ومن المهم في هذه المرحلة المبكرة من عمر هذه التقنية الجديدة ألا نفقد الثقة في وسائل الإعلام وفي كل مقطع فيديو نشاهده، إذ يعد فقدان الثقة في وسائل الإعلام الحقيقية نتيجة خطيرة من نتائج التزييف العميق، ويؤدي إلى إيجاد نظريات مؤامرة تتمحور حول التزييف العميق. علينا أيضًا أن ننتبه إلى أن مسألة التزييف العميق أصبحت إلى حد كبير متاحة للجميع، وهو ما يجعلها قابلة للاستخدام على نطاقات عالمية واسعة، خاصة في الصراعات الداخلية في الدول التي تعاني حروبا أهلية وهو ما قد يطيل أمد هذه الحروب ويضاعف خسائرها، وكذلك في الصراعات العالمية والإقليمية العسكرية منها وغير العسكرية لسنوات طويلة، إن لم يتحد العالم وشركات التقنية الكبرى على مواجهتها.

إن كنا جادين حقا في التعامل المبكر مع هذه المخاطر علينا ألا نتأخر كثيرا في مواجهة التزييف العميق وذلك من خلال نهج متعدد الجوانب، يتألف من مزيج من التشريعات، والاستثمار في تكنولوجيا الفحص والاكتشاف المبكر، وجهود التثقيف والتربية الإعلامية، وتعزيز المؤسسات الإعلامية ذات الثقة مثل الصحافة الحرة، وتوسيع أطر حرية التعبير.