التراث الثقافي للورد

08 أبريل 2023
08 أبريل 2023

تتميَّز سلطنة عمان بتراث ثقافي ثري ومتنوِّع، يرتبط بالحياة اليومية للإنسان وما يقوم به من أنشطة اجتماعية واقتصادية؛ فالثقافة بوصفها منتج إنساني أصيل، تبرز ضمن ما يقوم به وما يحتاجه من ممارسات تُسهم في تأصيل مضمونها القيمي، فتُعزِّز مفاهيمها الحضارية من ناحية، وتعظِّم ارتباطها به من خلال ما تقدمه من مردود اقتصادي من ناحية أخرى؛ ذلك لأن التراث الثقافي يُسهم مساهمة كبرى في التنمية المستدامة، ويحافظ على هُوية المجتمع، بما يقدمه من مضامين فكرية وعادات قيمية تلبي احتياجاته.

إن التراث الثقافي بما يقدمه من إمكانات في تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية، يفتح فرصا ومجالات ثقافية تنموية، تُسهم في تحقيق الأهداف الوطنية، وتُقدِم مواد التراث باعتبارها قدرة إبداعية يمكن تحويلها إلى صناعات معرفية؛ فالممارسات التي يقوم بها أفراد المجتمع عبر عقود من الأزمنة أسهمت في تأصيل هذا الدور التنموي، وقدَّمته من خلال الكثير من الأشكال والنُظم والممارسات، إضافة إلى القيم والمعارف والعادات، ولهذا فإن من بين تلك الأشكال ما يرتبط بالمنتجات الزراعية والمحاصيل؛ حيث نشهد مجموعة من الممارسات ونرصد العديد من المعارف التي ترتبط بحصاد التمور واللبان والنباتات العطرية وغيرها من المحاصيل التي تُعد مراحل زراعتها وجني ثمارها من بين مواد التراث الثقافي المرتبط بحياة المجتمع وثقافته وعلاقته الفكرية والمعرفية بالطبيعة ومواردها، وبالتالي ارتباطه العاطفي والنفسي بتلك الممارسات.

ولأننا نشهد خلال هذه الأشهر موسم حصاد الورد العماني، الذي تتميَّز به محافظة الداخلية، فهو من بين المواسم التي تُسهِم في تعظيم القيمة الثقافية لارتباط الإنسان بالأرض، وما يمكن أن يؤسسه معها من تاريخ حضاري وثقافي مستدام؛ فالتاريخ الثقافي لعلاقة أفراد المجتمع بزراعة الورد ضارب في القِدم، ولهذا سنجد هذا المُنتج حاضرا في المرويات من الحكايات والأمثال وغير ذلك، كما نجده متوفرا في تلك الممارسات والعادات والتقاليد المرتبطة بالحياة اليومية بدءا من الطعام والشراب وليس انتهاءً بالصحة وما يتعلق بها من ممارسات في الطب الشعبي والطب البديل، إضافة إلى أهميته في الزينة والعطور وغير ذلك.

إن ارتباط الورد بحياة الناس في عُمان لا يقل أهمية عن ارتباطهم باللبان مثلا، فهو منتج ثقافي له خصوصيته وله فلسفته التي يقدمها ضمن مفاهيم الفكر العماني، وما يرتبط به من قدرة على التأصيل والتنمية. إنه ليس مجرد منتج اقتصادي بل هو مورد ثقافي مرتبط بكيان المجتمع وحضارته بل وطبيعته التي تعتني بالتفاصيل والألوان والتنوُّع، ولهذا فإن صون التراث الثقافي غير المادي المرتبط بالورد من تاريخ وفكر وأدب وعادات وحمايته، له أهمية لا تقل عن أهمية رصد تراثه الثقافي المادي المتعلِّق بمراحل الزراعة واستخداماته وتقطيره والأدوات المستخدمة في ذلك؛ فالتاريخ المروي للورد وعلاقته بالإنسان، يكتسب أهميته من قِدم هذه العلاقة وارتباط الورد بالمكان العماني ورحلة انتقاله وهكذا.

ولأن الورد مرتبط بثقافة المجتمع العماني كونه أحد أهم المنتجات التي تدخل البيوت بمحبة كبيرة، فإنه يزداد أهمية اليوم مع انفتاح المجتمع وزيادة التركيز على التنويع الاقتصادي، وقدرة المنتجات الزراعية الفريدة في جذب الانتباه ثقافيا واجتماعيا وسياحيا، الأمر الذي دفع المؤسسات المعنية إلى تعظيم القيمة السياحية لموسم إنتاج الورد وحصاده، من خلال مجموعة من الفعاليات المتعلقة بالسياحة وقدرة حقول الورد ومصانعه على جذب السُيَّاح ولفت انتباههم، وهو أمر سيُسهم في تعزيز المفاهيم الأصيلة التي يتميَّز بها الورد في عُمان ونشر وتسويق المنتج المحلي باعتبار فرادته؛ خاصة أن هذا المنتج يشهد توجهات استثمارية، أدت إلى زيادة في إنتاجه من ناحية، وجودته من ناحية أخرى، إضافة إلى تجويد تغليفه وطرائق عرضه في السوق. إلاَّ أن ما يهمنا هنا ونحن نتحدث عن الورد باعتباره منتجا ثقافيا، هو قدرته على المساهمة في دعم الثقافة العمانية وتأصيلها؛ ذلك لأنه من المنتجات المرتبطة بتاريخ ثقافي عريق، قادر على تقديم أوجه متعددة للثقافة العمانية، وما علينا سوى أن نعرف كيف يمكننا الكشف عن تلك الأوجه من أجل تعزيز دوره الحضاري الحديث، والتعريف به للأجيال؛ فمن خلال مهرجان الورد، أو فعاليات موسم الورد السياحي، يمكن أن يكون هناك كشف عن ذلك الإرث الحضاري والثقافة العمانية الأصيلة، ليس عن طريق المشاهدة وحسب، بل أيضا من خلال بعض الفعاليات الشبابية المتعلقة بالتمثيل الثقافي للورد، وارتباطه بحياة الناس في عُمان، إضافة إلى إشراك المجتمع بكافة أطيافه في فعاليات هذه المواسم، بما يُعزِّز السياحة المحلية ويدعم الشركات المحلية المساندة التي يمكن أن تشارك ضمن هذا الحدث الوطني.

إن موسم حصاد الورد ليس موسما سياحيا واقتصاديا وحسب، إنه موسم ثقافي في الأصل له أهميته الحضارية التي تنعكس على القطاعات التنموية كلها؛ فهذه الثقافة ترتبط من الناحية العلمية بقدرة المجتمعات على فهم الموارد الطبيعية وإدارتها وفقا لمفاهيم الاستدامة البيئية، ولهذا فإن المعارف والقيم والممارسات التقليدية التي تأسست عليها، أدت إلى تفاعلات البيئة الطبيعية منذ عقود ضاربة في القِدم، ولذلك استطاع العماني بفهمه ومعارفه المتوارثة على تطوير معارفه الثقافية والاقتصادية بحيث يتمكَّن من إدارة هذه الموارد وصونها وحمايتها، وبالتالي نجح في الحفاظ على هذا المنتج من ناحية، وتطويره من ناحية أخرى، بما يستطيعه وما يُتاح له من إمكانات.

ولأن الورد مرتبط بثقافة المجتمع العُماني، فإن تطويره اليوم لا يعتمد على المعارف التقليدية وحسب بل عليه أن يخرج إلى الاستفادة مما توفِّره التقنية من وسائل وتكنولوجيا حديثة؛ فعلى الرغم من توفُّر بعض المصانع التي بدأت في استخدام التقنية، وما يقدمه مركز تقطير النباتات العطرية من خدمات، إلاَ أن الورد باعتباره تراثا (حيَّا) عليه أن يكون مصدرا رئيسيا للابتكار من أجل التنمية؛ ذلك لأنه موردا تنمويا قادرا على نقل التراث العماني والهُوية الوطنية إلى العالم، عن طريق ابتكار أنماط جديدة ووسائل حديثة أكثر قدرة على هذا النقل، وبالتالي أكثر تمكُّنا على استخدام وسائل التقنية من أجل التطوير والتنمية.

لقد ارتبط الورد بالشخصية العُمانية والحياة اليومية من خلال تلك المنتجات الاقتصادية والمعرفية كلها، الأمر الذي يجعل منه موردا ثقافيا مهما علينا الاهتمام به، سواء من خلال تطوير إنتاجه وتنمية قدرته على التسويق والانتشار بل والتنافس الخارجي، أو من خلال صون تاريخه الثقافي وحمايته، وذلك لن يتأتى سوى من خلال تبني برامج وطنية قائمة على الابتكار، ودعم المشتغلين والمهنيين في هذا المجال، إضافة إلى أهمية استخدام وسائل حديثة مناسبة للأجيال والشباب تكشف الفرص الاستثمارية المستقبلية المتوفرة في هذا المنتج الثقافي الثمين.

إن الورد قيمة ثقافية وحضارية علينا تعظيم فائدتها، وقدرتها على الإنتاج والاستدامة، والاهتمام بالمشتغلين بها، وتهيئة البيئة المناسبة لفرصه الاستثمارية القائمة على الابتكار والتقنية؛ فسلطنة عُمان واحدة من الدول المتميِّزة بهذه الصناعة والمتفرِّدة بها، والتي تحمل تاريخا حضاريا علينا الحفاظ عليه، والاستثمار فيه ودعمه بما يعزِّز مكانته الثقافية ويفتح آفاق الصناعات الثقافية المرتبطة به، والصناعات المساندة له، ليصل إلى مستوى المنافسة التي نطمح إليها.

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة