التراث الثقافي الرقمي في كومكس 2025
13 سبتمبر 2025
13 سبتمبر 2025
يعكف المشتغلون في التراث الثقافي على إيجاد سبل إبداعية لصونه وحمايته خاصة في ظل التطورات التقنية المتسارعة، وتوجهات الذكاء الاصطناعي التوليدي، وما يحدثه من إشكالات من ناحية، وما يمنحه من فرص واعدة من ناحية أخرى؛ لذلك فإن تحقيق التوازن في استخدام هذه التقنيات لصون التراث الثقافي وتطويرها باعتبارها حلولا يمكن الاستعانة بها لحمايته يتطلَّب تعزيز الإبداع والابتكار بما يحافظ على الأصول، ويطوِّر أشكال تمثيلها وأنماط الاستفادة منها.
ولأن التراث الثقافي الرقمي يربط بين مجالات التراث الثقافي بكافة أنواعها، والتقنيات الحديثة وما تقدمه من إمكانات؛ فإنه يظهر في أشكال متعددة مثل الواقع الافتراضي، والواقع المعزز والطباعة الثلاثية الأبعاد، كما يظهر اليوم في النماذج اللغوية الكبرى بوصفه القوة الداعمة لهذه النماذج، والمحتوى المعرفي الذي يؤسِّس تكامل أنماط الذكاء الاصطناعي مع الممكِّنات المحلية للمجتمعات والتي تقوم في الأصل على التراث الثقافي والحضاري للدولة.
يخبرنا المجلس البريطاني في تقرير له بعنوان (التراث الثقافي الرقمي: الخيال والابتكار والفرص 2025) أن توفُّر الإمكانات الرقمية والبرامج الحاسوبية المفتوحة (يعزِّز التقاط بيانات التراث الثقافي وحفظها وإمكانية الوصول إليها)، كما أن ممارسي التراث الثقافي يحتاجون اليوم إلى موارد جديدة قادرة على مواءمة التكنولوجيا بتغيراتها المختلفة مع احتياجات القطاع بما يتناسب مع حساسيته وأهميته بالنسبة للمجتمعات؛ ولهذا فإن تحوُّل التراث الثقافي ورقمنته لا يعتمد على التقنية وحسب، بل أيضا على وعي مبرمجي تلك التقنيات والبرامج بشأن خصوصية هذا القطاع وإمكاناته، والفرص التي أن يوفرها.
وبالتالي فإن هذه البرامج والتقنيات في تعاملها مع التراث الثقافي تنطلق من فكرة الصون والحماية إلى المشاركة الجماهيرية في التعريف بهذا التراث، وتقديمه باعتباره فرصا ذات أهمية كبرى للإبداع والابتكار إضافة إلى أهميته في القطاع السياحي والاقتصادي والبيئي بما يمثِّله من أنماط ومجالات قادرة على صناعة سوق جديدة خاصة بالسياحة الثقافية والخدمات، وتصنيع الأدوات الثقافية، وصون التراث العمراني، واستثماره وغير ذلك.
وبحسب تقرير المجلس البريطاني؛ فإن تكنولوجيا التراث الثقافي الرقمي تظهر من خلال قواعد البيانات المستخدمة لتخزين البيانات الخاصة بالتراث واسترجاعها وإدارتها بكفاءة. فهذه القواعد البيانية مهمة وضرورية لقطاع التراث الثقافي الرقمي؛ لتخزين مواد التراث المادي وغير المادي وإدارتها، إضافة إلى حفظ المواد البحثية، وقواعد بيانات المحتوى الوطني بما يتضمن تحويل القطع الأثرية المادية والنصوص والأصوات والصور إلى تنسيقات رقمية بطريقة تضمن الحفاظ عليها، وتوسِّع الوصول إليها، وتسهِّل البحث عنها.
بالإضافة إلى ذلك؛ فإن تقنيات مثل (الواقع الممتد XR) التي (تدمج العالمين المادي والرقمي؛ لإنشاء تجارب متعددة الحواس) تسهم إسهاما فاعلا في صون التراث الثقافي الرقمي من خلال الإعمار الافتراضي للتراث العمراني، والتجارب التعليمية التفاعلية التي تعزِّز التاريخ الإنساني، وكذلك استخدام الألعاب الإلكترونية في التراث الثقافي الرقمي؛ لإبداع تجارب فاعلة وجاذبة للمستخدمين خاصة في البيئات التاريخية والأدبية. كما يشير التقرير إلى أهمية وسائل التواصل الاجتماعي في إنشاء المحتوى ومشاركته وتفاعلاته؛ بهدف تعزيز الوعي، وإشراك الجماهير في المحتوى التاريخي في مجالات التراث الثقافي بأنواعها.
إن التراث الثقافي جزء من التحولات التقنية الواسعة الانتشار؛ فهو مجال يتنامى مع تلك التحولات، ويتطوَّر في أشكال الصون والقدرة على تجاوز التعقيدات التي يمكن أن تؤثر على حماية التراث والحفاظ على الأصول الوطنية؛ ولهذا فإن ابتكار أشكال الصون التقني وأنواع الأنماط التقنية الابتكارية التي يمكن أن يظهر خلالها يعتمد على قدرة المجتمعات على فهم أهمية مواكبته، وتوازنه مع المعطيات التقنية الحديثة بما يضمن مشاركته واستدامته، واستثماره وفق آليات مدروسة تدعم تلك الحماية، وتعزِّز أنماط تداوله ونشره.
ولقد اعتنت الدولة برقمنة التراث الثقافي المادي وغير المادي من خلال برامج التحوُّل الرقمي، بُغية توفير بيئة رقمية حاضنة للتراث الثقافي بأشكاله المختلفة خاصة على مستوى البيانات المفتوحة، ومع التحولات التقنية المتسارعة؛ فإن البيئة الرقمية في عُمان خصبة وغنية تسهم في تمكين التراث الثقافي الرقمي، وتقديم فرص واسعة لرقمنته بأنماط وأشكال مختلفة، وتعزيز إمكانات الإبداع والابتكار في مجالاته المتنوعة.
ولعل معرض كومكس 2025 الذي استضافته عُمان خلال الأيام القليلة الماضية كشف عن مجموعة من المبادرات والبرامج التي تعزِّز تلك الفرص للتراث الثقافي خاصة إطلاق النموذج اللغوي الكبير العماني ((معين)) الذي يُعد مكنزا أساسيا للمحتوى الثقافي الوطني، بما يمثِّله من أهمية في صون التراث الثقافي فكرا وأدبا وتاريخا ولغة، وما يقدمه من توسعة لمجالات التعريف بالمحتوى الوطني والسياقات المحلية التي تفتح آفاقا للتشارك، والفهم والوعي بالاحتياجات المحلية في القطاعات المختلفة.
إن كومكس 2025 من خلال ما قدمه من مبادرات يكشف أهمية التراث الثقافي خصوصا والقطاع الثقافي بشكل عام في عالم التقنية باعتباره قطاعا محليا أساسيا تقوم عليه؛ حيث ظهر ذلك في تلك الورش الابتكارية التي نظمها المعرض، وكذلك البرامج التفاعلية وحتى الروبوتات التي اتسمت بالمحتوى العماني، وكذلك البوابة الوطنية للبيانات المفتوحة التي تقدم الكثير من البيانات والمعلومات إضافة إلى أجنحة المحافظات العمانية، ومنصات المؤسسات التي قدَّمت العديد من المبادرات الخاصة بالتراث الثقافي الرقمي سواء من خلال استخدام تجارب الواقع الممتد (XR)، أو المساعد الرقمي، أو تجارب الواقع المعزِّز أو الواقع الافتراضي وغيرها.
فهذه التجارب التقنية تعد أشكالا من الوسائط الرقمية التي نقلت التراث الثقافي تقنيا، وأسهمت في تقديمه للجمهور خاصة لفئة الشباب، ومكَّنتهم من التعرُّف عليه ضمن بيئة رقمية آمنة قادرة على صونه وحمايته، ومحفِّزة على الإبداع والابتكار؛ ذلك لأن الكثير من تلك المبادرات والتقنيات والتطبيقات الذكية تقود المشتغلين في التراث الثقافي إلى إيجاد وسائل حديثة قادرة على فتح فرص جديدة ليس للحماية وحسب، بل أيضا لإيجاد أنماط جديدة للاستثمار والصناعات الإبداعية القائمة على مجالاته المتعددة.
ولذلك فإن ما قدمه معرض كومكس 2025 يُعد مساحة واسعة من التسارع التقني والتجارب المختلفة التي يمكن أن تمثِّل انطلاقة مهمة في تاريخ رقمنة التراث الثقافي وتوفيره بصيغ رقمية مختلفة وآمنة؛ ليكون أساسا معرفيا ومحتوى يمكن أن يُسهم في انتشاره ومشاركته بما يضمن صونه واستدامته، ويفتح فرص جديدة للإبداع الثقافي التقني، ويُعزِّز إمكانات استثماره على المستوى الوطني.
إن للتراث الثقافي الرقمي في ظل التطورات المتسارعة التي تشهدها الدولة على المستوى التقني مجالات واسعة من آفاق الإبداع والابتكار، والقدرة على الانتشار والتفاعل والمشاركة؛ ولهذا فإن التركيز على الاستفادة من تلك التطورات التقنية، وتوسعة مجالات التحوُّل الرقمي وفق معطيات تقنية حديثة سيمثِّل نقلة أساسية في مجال الصناعات الإبداعية والسياحة الثقافية بشكل خاص، وما علينا سوى اغتنام تلك الفرص التقنية، وتشجيع المؤسسات والشباب للإبداع والابتكار في مجالات التراث الثقافي من ناحية، وتوفير مجالات أرحب لرقمنة التراث الثقافي العماني بما يُسهم في صونه واستدامته.
عائشة الدرمكية باحثة متخصصة فـي مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة
