التحوُّل الرقمي الموثوق
لقد اتخذت سلطنة عُمان من التحوُّل الرقمي أساسا لبناء العلاقات والشراكات في المنظومة الوطنية، ولهذا فإنها انطلقت من "البرنامج الوطني للتحوُّل الرقمي الحكومي"، الذي يهدف إلى بناء تقنية متطورة وقادرة على التفاعل المستمر والمستدام من ناحية، والمساهمة في إيجاد توازن وموثوقية في اتخاذ القرارات من ناحية أخرى، والحق أن البرنامج قد أصبحت نتائجه ومدخلاته واضحة للمتلقين في تحقيق أهداف تلك الشراكة المجتمعية التي يرتكز عليها؛ حيث تسعى المؤسسات خاصة الحكومية منها إلى تأسيس برامج تقنية هادفة إلى تسريع الخدمات وتسهيلها للمستهلك أو المستفيد، وهي بذلك تُسهِم في تعزيز المحتوى الرقمي ودعم تواصلها مع الآخر، فهذا المحتوى لا يخدم أفراد المجتمع وحسب بل أنه يقدِّم أنماطا جديدة من التواصل مع المستفيدين من خارج الدولة سواء أكان على مستوى السياحة أو الاستثمار أو غير ذلك؛ فالمحتوى الرقمي يمثل نافذة تطل من خلالها الدول على العالم، وتعرِّف بممكناتها وما تتميَّز به من معطيات على كافة المستويات، لذا فإن تأسيس هذا المحتوى يقتضي وفقا لمبدأ الشراكة والموثوقية إلى إيجاد مجموعة من البرامج والتطبيقات التي تؤسسها وتدعم تطلعاتها.
ولهذا فإن أهمية التحوُّل الرقمي تكمن في استثماره للفكر وتغيير السلوك، وبالتالي فإنه يقوم على إحداث تأثير مباشر على الأفراد وطريقة العمل وأنماط التعاملات، لذا فهو يوفِّر إمكانات لبناء مجتمع فاعل، قادر على المشاركة والمساهمة إذا ما توفرت له الخدمات الإلكترونية وتيسَّرت طريقة استخدامها، ولعل النجاح المشهود له للتحوُّل الرقمي في القطاع الشُرطي في عُمان، وما قدَّمه من إمكانات إلكترونية أصبحت نموذجا يُحتذى به على المستوى الإقليمي، تأتي تجربة انتخابات المجلس البلدي التي تمت مؤخرا، التي قدَّم خلالها تطبيق "انتخب" استثمارا هائلا للفكر من ناحية بنائه وموثوقيته، وتغييرا للسلوك بالنسبة للمنتخبين، الذين شكَّلت لهم هذه التجربة مرونة وسهولة في التعامل مع المتغيرات التقنية، وبالتالي فقد أسهمت في تحسين مهارتهم من ناحية، وتغيير الصورة الذهنية نحو التقنية للكثير منهم، الأمر الذي كان له الأثر الكبير في تقبلهم لتلك المتغيرات والاستعداد لمواكبتها.
إن نموذج التطبيق "انتخب" يُعد من النماذج الرائدة في التحوُّل الرقمي، وهي التجربة الأولى في المنطقة على مستوى الانتخابات، التي تؤسس شراكة تقنية بين المؤسسات، وتفاعل مجتمعي جماهيري ناجح على مستوى الأفراد، وبالتالي فإن تعظيم هذه التجربة، واتخاذها واحدة من النماذج التي تكشف قدرة الكفاءات الوطنية على تقديم تطبيقات ناجحة في القطاعات المجتمعية الأخرى، التي تحتاج إلى سرعة في التحوُّل الرقمي الذي يُسهم في بناء تلك الشراكة وتعزيزها، ويستثمر في الفكر الإنساني وييسر وصول الأفراد إلى الخدمات التي يسعون إليها خاصة في المؤسسات الخدمية التي تهدف إلى توفير خدمات أفضل وأسهل للمستفيدين.
لقد أكَّدت عُمان قدرتها على التحوُّل الرقمي، ضمن ممكنات رؤيتها الوطنية (عمان 2040)، ووفق هذه الرؤية أسَّست منظومة هذا التحوُّل، ولأن مسقط "العاصمة الرقمية العربية لعام 2022"، فإنها مع نهاية هذا العام تكشف قدرتها على تنفيذ هذه المنظومة، وبناء شراكات وطنية وإقليمية قادرة على تعظيم المحتوى الرقمي العماني، وزيادة تأثيره، ولهذا فإنه لتحقيق "مجتمع المعرفة" لابد من تأسيس "مجتمع معلومات" رصين وقادر على التعريف بعُمان، وتقديمها للآخر بما تستحق، وبما يكشف عن ممكناتها وقدراتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. إن مجتمع المعلومات الذي نأمله لا يمكن أن يتأسس سوى وفق تلك المنظومة الرقمية التي تُسهم فيها المؤسسات الحكومية والخاصة والمدنية من ناحية، والأفراد من ناحية أخرى، ولن يكون ذلك إلاَّ بسرعة التحوُّل الرقمي لبناء محتوى رقمي موثوق.
يخبرنا مؤشر الاقتصاد الرقمي العربي 2022 (مرحلة ما بعد كوفيد 19، وآفاق التعافي والنمو الاقتصادي العربي)، الصادر عن الاتحاد العربي للاقتصاد الرقمي ومجلس الوحدة الاقتصادية العربية بجامعة الدول العربية، أن المنطقة العربية تحتاج إلى "تطوير القوى العاملة في المستقبل القريب حتى تستطيع الاستفادة الكاملة من الاقتصاد الرقمي العالمي"؛ ولهذا فإنها بحاجة إلى تحسين (البنية التحتية للنطاق العريض الثابت)؛ ذلك لأن زيادته بنسبة "10% من شأنها أن تؤدي إلى زيادة في الناتج المحلي الإجمالي للفرد بنسبة 0.71% للدول العربية" – حسب تقرير المؤشر –، إضافة إلى حاجة الدول إلى تعزيز الابتكار المُنتِج (للمنتجات الرقمية والمنصات والخدمات والبيانات والمحتوى الرقمي)، الذي يمكِّن الاستثمار في المعرفة الرقمية خاصة على المستوى الإقليمي.
فبعد أزمة كوفيد 19، والأزمة الاقتصادية التي مازلت تلقي بظلالها على الكثير من الدول، إضافة إلى الأزمات السياسية العالمية، فإن تعزيز القدرة على الاستفادة من الاقتصاد الرقمي، وتعظيم أهميته والاستثمار فيه، أصبح من الضرورات الملِّحة سواء على مستوى البنية التحتية أو الابتكار أو الأسواق والهياكل المؤسيسة أو القوى العاملة والمهارات الرقمية والخدمات، إضافة إلى التنمية المستدامة القائمة على المعرفة، فكل ذلك يجب أن يتأسس وفق منظومة التحوُّل الرقمي التي تقوم على تعظيم الاستفادة من الممكنات الوطنية و الإقليمية من أجل تعزيز الاقتصادات الوطنية.
يقدِّم تقرير مؤشر الاقتصاد الرقمي العربي 2022 تقييما لـ (22) دولة عربية، وفقا لمدى استعداها الرقمي، اعتمادً على (قدرتها على الاستفادة الكاملة من الاقتصاد الرقمي)؛ حيث يركِّز التقرير على تسع ركائز رئيسة تشمل (البنية التحتية، والابتكار، والأسواق والأعمال، والهياكل المؤسسية والحكومية، والقوى العاملة والمهارات الرقمية، وخدمات الحكومات الإلكترونية، والمعرفة والتكنولوجيا، والأسواق المالية، والتنمية المستدامة)، وهي ركائز تكشف مدى قدرة الدول على الاستعداد للتحوُّل الرقمي، والتحسين الذي تم حتى نهاية الربع الأخير من العام الحالي.
ووفقا لهذا المؤشر فإن عُمان احتلت المرتبة الثانية في (الأسس الرقمية) ضمن ركيزة البنية التحتية؛ وهو محور يقيس توفُّر الأسس اللازمة لنظام رقمي متطوِّر يشمل السياسات واللوائح والمهارات الرقمية والتمويل والحوكمة، كما جاءت في المرتبة الثانية في محور (الاستعداد الرقمي للمواطن)، الذي يسبر مدى استفادة المواطن من منظومة التحوُّل الرقمي التي يجب أن يكون محورها الرئيس، بحيث تُسهم التكنولوجيا الرقمية – حسب التقرير – في "تحسين نوعية حياة المواطنين والمجتمع المدني"، بشكل خاصة بكافة أطيافه. وقد جاءت عُمان في المرتبة الثانية أيضا في محور (الصناعة والابتكار والبنية الأساسية) ضمن ركيزة التنمية المستدامة التي تعتمد على قدرة الدول على استخدام التكنولوجيا في تحقيق أهدافها المستدامة.
كما تأتي عُمان في المرتبة الخامسة في الحكومة الرقمية القادرة على تلبية احتياجات الأفراد والمجتمع سواء من خلال توفير الخدمات العامة أو تحسين كفاءة أدائها وشفافيتها ، والسادسة في الابتكار من حيث التعامل معه باعتباره محفزا للرقمنة وذلك في تقديم أنماط التكنولوجيا الرقمية الجديدة، وابتكار مصادر جديدة للقيمة المضافة للصناعات الوطنية، بينما تأتي في المرتبة السابعة في ركيزة (تطور سوق المال) ضمن محور الأعمال الرقمية، لتحتل المرتبة الخامسة في التصنيف العام، وهي مرتبة متقدمة بين الدول العربية تكشف استعدادها وتمكين المنظومة الوطنية من تطوير قدراتها التقنية والاهتمام بالتفاعل الإيجابي مع أفراد المجتمع، إضافة إلى تعزيز إمكانات التحوُّل الرقمي ومستقبله في الدولة.
ولهذا فإن هذه المراتب جميعها تكشف للمتتبع قدرة الدولة على تبني رؤية واضحة في مجال التقنية والتحوُّل الرقمي الذي يسير وفق متطلبات مرحلية مهمة من عمر النهضة، وعلى الرغم من ذلك فإن عُمان ما زالت تحتاج إلى السعي الدؤوب لتطوير المنظومة التقنية في ركائز مهمة في الاقتصاد الرقمي كركيزة (قوى السوق)، إضافة إلى ركيزة (المعرفة والتكنولوجيا)، فهذه ركائز ذات تأثير ليس على منظومة الاقتصاد وحسب بل وحتى على المنظومة المجتمعية والشراكة الفاعلة بين المؤسسة والأفراد.
إن التحوُّل الرقمي يشهد تطورا ملحوظا في عُمان، وعلينا أن نُسهم في تسريعه مؤسسات وأفراد، من خلال ما نقدمه سواء على مستوى التطبيقات أو المحتوى الرقمي الموثوق، الذي يقدَّم الصورة الإيجابية والصادقة عن وطننا.
