التجاوزات.. هل هي مبدأ أم مناورة؟

28 نوفمبر 2021
28 نوفمبر 2021

[email protected]

تحضر مفردة الـ «تجاوزات» في الثقافة الاجتماعية على أنها واحدة من المفردات المتداولة بصورة يومية، وفي مواقف مختلفة، ومعنى هذا أن المفردة مستوعبة لفظا واصطلاحا، ولا تحتاج إلى كثير من التعريف، وهذا يعكس ديمومتها وديناميكيتها في آن واحد، ويعكس كذلك رحابة ممارستها على نطاق واسع من قبل شرائح المجتمع، وهي بقدر الفهم السيئ الذي قد تحمله أو توحي به، إلا أنها في المقابل؛ قد تحمل معاني إيجابية، ولو أن الفعل السيئ في توظيفها على الواقع هو الطاغي أكثر من أي معنى آخر، فتجاوز القوانين، وتجاوز الأنظمة، وتجاوز حقوق الآخرين، معروف أكثر من تجاوز الأخطاء، وتجاوز الزلات، وتجاوز الإخفاقات.

من أجمل ما يقال عن التجاوز؛ هو: «أن تتجاوز ندمك، أن تتجاوز هزيمتك»- كما ترى الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي – فذلك مرده إلى قوتك، وإيمانك، وأمنك، ورضاك، وحيويتك، وقدرتك على تجاوز عثراتك التي لا تنتهي، لأنك؛ في المقابل؛ من دون هذا التجاوز ستظل حبيس هذه الكتل الأسمنتية الجاثمة على صدرك، والمكتسحة شمولية رؤيتك؛ نحو الحياة، ونحو الناس، ونحو الآمال؛ ونحو الطموحات، فما أقسى أن تظل حبيس ندمك، وحبيس هزيمتك، وحبيس ذكرياتك البائسة، وحبيس إخفاقاتك المتكررة، فأنت ولدت لتبقى؛ لا لتنتهي، فالحبس هو النهاية العظمى للحيوات، مهما كانت مغذيات هذه الحيوات على امتداد أعمارنا، ولذلك كلنا نحتاج إلى مجموعة هذه التجاوزات، وهذا الانتقال السريع من حالة العسر، إلى حالة اليسر، ومن حالات التموضعات المقيتة في حياتنا إلى حالات الحركة، يعكس أننا يجب أن نشتعل بالحركة أكثر من السكون «أدركت أن الشيء المتحرك- رغم كل المخاطر- يظل دائما أفضل منن الشيء المستكين، وأن التغير يظل دائما أنبل من الديمومة؛ وأن الساكن سيتفكك ويتحلل، ويتحول إلى تراب، بينما المتحرك قادر على البقاء إلى أبد الآبدين»- هذا ما تقوله الكاتبة البولندية؛ أولجا توكار تشوك في روايتها (رحالة).

في بيئات العمل تكثر التجاوزات، وإذا كنت صاحب قرار في أمر ما، في مؤسسة ما، في مهمة ما فقد يعرض عليك النص التالي: «وصلت التجاوزات الإدارية من خلال التدقيق الإداري في هذا العام إلى عدد غير مسبوق للأعوام السابقة، وهذا قد يتطلب من المؤسسة أن تبحث عن خيارات نوعية إما في التدريب، أو في التحفيز، أو في تدوير المسؤوليات والمهام، وإلا ستواجه المؤسسة الكثير من الإشكاليات والمعوقات الإدارية في حالة غض الطرف عن ما يحدث» وقد تقرأ أيضا: «إن التجاوزات المالية (زيادة الصرف) التي تم اكتشافها مع نهاية العام من خلال عمليات التدقيق المالي وصلت سقفا مخيفا، يضع المؤسسة في حالة طارئة، قد يؤدي بها إلى أن تتعثر مشاريعها في العام القادم». وقس على ذلك أمثلة كثيرة، سواء على مستوى الفرد، أو مستوى المجموع، ومعنى هذا ففي كل أنشطتنا في الحياة هناك تجاوزات، تشمل الممارسات الإدارية، والمالية، والقوانين، والنظم، والقيم، والأعراف، يحدث هذا إما في حالة ضعف من قبل المتجاوز، وإما في حالة طمع، وإما في حالة جس نبض، وإما في حالة استغباء وعدم اهتمام، يحدث هذا لأن الإنسان مفطور على التجاوز في أي شيء، وبدون مسوغ منطقي في بعض الأحيان.

تمثل التجاوزات البعد الأفقي في الممارسة؛ أكثر من أي بعد آخر؛ ولذلك هي مكشوفة ومفضوحة، وسهل اكتشافها، حتى وإن حيكت في الغرف المظلمة، فلن تخرج عن مسارها الأفقي، وإن تكاثرت، ولا تحتاج إلى جذور متأصلة، فهي مؤقتة في ظروف استثنائية، ومحكومة بزمن قصير، لأنها تمارس على حالة من الارتباك وعدم التركيز، لتداعياتها الخطيرة من جانب؛ ولما ينتظر ممارسيها من مجابهة القانون، والعرف، وعدم الرضا من جانب آخر، ولذلك فالتجاوزات مقرونة بالإفراط في الفعل المنجز، حيث تحل المبالغة في أداء الفعل، وهي مبالغة مذمومة؛ بلا جدال، قد تلمس جانب التفريط عندما لا تمتثل للقوانين والنظم، والتشريعات، ولذلك فالتجاوزات واقعة بين فخين، الإفراط في الفعل، والتفريط في مجموعة الضوابط التي تحد من هذا الفعل، أو تلغيه نهائيا، فلا يقع، وكلا الموقفين فيه امتحان شديد على من يعمد في ممارسة التجاوز، لأن تصنيفه فعل مذموم، ولا يسلكه الفرد السوي؛ والمتوازن، وقد يوسم من يمارسه بأنه يعاني شيئا من الأمراض النفسية، التي تحتاج إلى علاج، خاصة في حالة تكراره في أكثر من موقف، أو أكثر من ظرف، وما أدراك ما خفي في شأن العلاقات الاجتماعية حلها وحرامها؟!

ينظر إلى القوانين بكثير من الأهمية للحد- وليس لإنهاء المشكلة بصورة مطلقة- من التجاوزات التي يقوم بها البشر، ولولا هذه القوانين والنظم، لوصلت تجاوزات الفرد إلى مستوى غير طبيعي، وما يندرج فيه من الظلم، ومن التجاوز على حقوق الآخرين، وعلى الأنانية المفرطة إلى حد الاشمئزاز، ففي كل ممارسات الفرد هناك فرصة متاحة للتجاوز، حتى في خط السير في الانتقال من مكان لآخر، ومن هنا تأتي فلسفة وضع إشارات المرور كضابط مقنن للحد من التجاوزات التي قد ترتكب في حق الآخرين، وللحد من الوقوع في المخاطر القاتلة في كثير من الأحيان، ومع ذلك لا تزال حالات من التجاوزات قائمة طوال اليوم في مواقع التقاطعات المرورية، كما هو في مواقع تقاطعات المصالح القائمة بين البشر.

قد ينظر إلى سلوك بعض الحيوانات على أنها تدخل ضمن مفهوم التجاوزات، وخاصة المفترسة منها عندما تواجه قطيعا من الحيوانات الأخرى حيث تبرز القوة كأحد الخيارات المتاحة، فتتجاوز بذلك عددها القليل مقابل عدد القطيع الآخر، الذي قد يصل إلى العشرات من الفئة ذاتها، ولكن ما يفرق بين تجاوزات الحيوانات، وتجاوزات البشر، هو تصنيف الأول «الحيوانات» ضمن الفعل الغريزي، ومتى أشبعت الغريزة توقف السلوك التجاوزي، وذلك عند مستواه الأدنى، بينما يصنف الثاني «الإنسان» على أنه ضمن الفعل العاطفي، وإن سبقه العقل كمدبر في مرحلة التخطيط، قبل أن تغري العاطفة النفس فتوردها موارد الهلاك الذي يعقبه الندم، ولكن مشكلة الإنسان أنه لن يوقف فعل التجاوز عند حده الأدنى، بل سيذهب إلى الأبعد من ذلك، حيث عنده الاستعداد لأن يتجاوز التعليمات، ويتجاوز القوانين، ويتجاوز ما تم الاتفاق عليه، ويتجاوز قربه وبعده من أقرب الناس إليه، ويتحين أية فرصة قد يُقيّم فيها أن فعل التجاوز الذي سيقوم به يغلب التوقع أنه سوف يحقق فيه نجاحا، ولو نسبيا، والخلاصة من هذا كله، أن فعل التجاوز عند الإنسان حالة فطرية لا يستطيع الفكاك منها، ويمارسها في السر والعلن، وفي الإفراد والجمع، ولا يرى في تكرار تجاوزاته أية مثلبة يمكن أن تحسب عليه، لأن المجتمع من حوله يشاركه السلوك نفسه في مواقف مختلفة.

تبقى التجاوزات مغامرة غير مأمونة الخطى، ولأنها كذلك فليس من اليسير أن يسلكها أي فرد وهو في حالة من الاطمئنان، حيث يكون القلق والارتباك ملازمين لأي سلوك أو تصرف فيه شيء من التجاوزات، ومن أجل ذلك هي تلبس عباءة المغامرة، ومع أية نتيجة محتملة لنتاج هذه المغامرة في حقيقة التجاوز، لن تكون نتيجة تحظى بذلك القبول والرضا والإشادة، إطلاقا، وذلك انعكاسا لفعلها المشين، ومع ذلك فلا تزال النفس الإنسانية تمتحن ذاتها في هذا الطريق لتثبت على أن لها القدرة الكبيرة في الوصول إلى ما تريد، وأن مجمل القيم والقوانين والأنظمة لن يكون لها مشروع استباقي في الحد من استمرار التجاوزات في كل جوانب الحياة، ولكن المهم هنا؛ أكثر؛ هي حالة النفس اللوامة، وحقيقة الضمير الذي حتى وإن نام قليلا سوف يصحو، ولأن التجاوزات تمت، فإن صحوته ستكون لها ثمنا باهظا يدفع بمرارة، وبحسرة، خاصة عندما يكون من وقع عليه فعل التجاوز قد غادر هذه الحياة إلى غير عودة، فكيف للمتجاوز أن يرد إليه حقه، وأن يستميحه على ما بدر منه من نزق سلوكي غير محسوب العواقب، حيث يحل الندم «جائزة» غير مرغوبة لمغامرة استجمع فيها صاحبها كل قواه العاطفية، دون أن يصغي لصوت العقل.