التأطير .. منهج يكرس النمطية
يُنْظَرُ إلى مفهوم التأطير؛ على أنه وَضْعُ مجموعة من القوالب، والحدود بصورة معنوية، كما يوضع الإطار على الصورة، ولكن هذا الإطار المعنوي الذي يضعه الناس حول أشياء كثيرة في حياتهم اليومية؛ سواء على الأشخاص، أو الأشياء، أو الأمكنة؛ من وحولهم، له تأثيرات مادية ومعنوية كثيرة، ومنها ما يكون قاسيا، ومؤلما، فعندما يؤطر أحدنا شخصيات بعينها ويضع حولها أطر محكمة؛ وأغلب هذه الأطر سلبية؛ فإنه بذلك يلغي كل ما هو جميل أنجزته هذه الشخصيات، وعندما يضع أطرا معينة على قيم محددة من قيم المجتمع، فإنه بذلك يخص هذه القيم بالكثير من التحييد عن المساهمة في البناء الاجتماعي، حيث يفقدها قيمها السامية، وبالتالي فمنهج التأطيرات هذا له سلبيات كثيرة على حركة الحياة في المجتمع، فلا تكن الرؤى واضحة ومستنيرة بكل ما هو ممكن، بل تتشكل حواجز، ومسارات محددة، في كثير مما يفترض أنه متاح، وهنا أنأى بالفكرة عن ثوابت الشرع الصحيح التي يجب أن تقبل كما هي، فهي من عند الله عز وجل، وبالتالي ما دون ذلك يفترض أن لا توضع عليه أطر معنوية، وإنما تخضع المسألة للتنظيم المقر من قبل المجتمع، وللتنظيم المقر في المؤسسة، ففلان من الناس ليس عدوك؛ إن لم يتفق معك في رأي موضع نقاش بين أحضان المجتمع، وآخر كذلك لا يناصبك العداء لأنه يحاججك وفق التنظيم المؤسسي، والمدرسة الفلانية ليست سيئة لأن بها عضو تدريس شديد، والمؤسسة الصحية ليست سيئة لأنها وقع فيها خطأ طبي، والشرطة ليست قاسية لأن هناك من ارتكب خطأ مروريا وجد عقابا؛ ظنه صاحبه متقصد فيه هو فقط، والكرم ليس سيئا إن لم يصل إلى حدود التبذير، والشجاعة ليست تهورا إن مارسها صاحبها بحكمة، والأمثلة كثيرة، فوضع مثل هذه التأطيرات بعملية ذهنية هي استنتاج فردي انعكاسا لخبراته وتجاربه في الحياة، فهناك اتساع في الأفق، وهناك مساحة مشرعة تستوعب كل التقاطعات، والاختلافات، والتنوعات، والتباينات، ولكن كل ذلك مرهون بقدرة الفرد على التخلص من تجاذباته الذاتية، وتحرير نفسه من قيود يصنعها بنفسه ولنفسه فقط.
وعند النظر في حالة التأطير في عموميات الأشياء، نجد أن التأطير يشمل؛ الهويات؛ والأيدلوجيات؛ والمذاهب الدينية، والمذاهب السياسية، وأخطرها التأطير الاجتماعي؛ حيث ينأى بالتفاعل الاجتماعي في مكونات ضيقة جدا، كما أن تأطير الهويات لا يقل خطورة عن سابقتها، ولعل معظم مصائب العالم على مر الأزمان؛ كما هو الحال اليوم؛ التأطير الذي تعانيه الهويات، ومدى استبسال الناس على هوياتهم، حيث تختزل الهوية الشاملة الكبرى لمفهوم الوطن؛ في هويات مجزأة وصغيرة، ومحددة، فتنشغل الأمة بهذه الهويات المحددة والمؤطرة عن قضاياها الرئيسية، فيأتي ذلك على حساب تطور الوطن، والاهتمام بقضاياه المصيرية، وعلى العموم فكل من (الهويات؛ والأيدلوجيات؛ والمذاهب الدينية، والمذاهب السياسية؛ والفئوية، والوجاهية، والجندرية، واللغوية، واللونية) عندما تؤطر كل هذه المكونات تخفق مشروعات الوطن، وبدلا من أن ترتقي الأوطان بتفاعلات جميع عناصرها الموكولة إليها خدمته، تصبح معول هدم، ليس من اليسير تقويمه في لحظة زمنية فارقة؛ حيث تعمر هذه الحالة المهينة في حق الوطن أزمانا عديدة، وهناك اليوم الكثير من الأوطان التي تعيش مأزق هذه الحالة، وهذا بقدر ما يؤسف عليه حقا، هو ضربة كبيرة في مفهوم الوعي الاجتماعي الذي تعززه اليوم المعرفة وتسجل فيه استحقاقات مهمة.
هناك من الناس من يعمل على جعل التفاعلات بين مختلف العناصر لمكون ما، في إطارات ضيقة فلا تتفاعل مع محيطها لتحقيق هذا المكون؛ فوق أنها تتماهى على كينوناتها فقط، ومثال ذلك العلاقات الاجتماعية اللصيقة؛ كعلاقات ذوي القربى، وعلاقات الصداقة، وعلاقات الزمالة في المهن، فهناك عناصر كثيرة تجمع بين أفراد هذه العلاقات، وأهمها قربا وجود الوطن كحاضنة للجميع، هذا بخلاف علاقات النسب، وعلاقات المعرفة، وعلاقات المجتمع، وعلاقات الدين، واللغة، والعادات والتقاليد، والقيم الأخرى الرفيعة، حيث تزاح هذه العناصر كلها، ويصب التأطير على صورة واحدة فقط، إما لمصلحة آنية، وإما لهاجس الخوف من الطرف الآخر، وإما لسوء نية، وإما للانفراد بأمر ما، ويحدث هذا التأطير من خلال شن هجوم قاس على طرف ما، يشاع في هذا الهجوم سوء الخلق، بكل ما يحمله مفهوم سوء الخلق من معنى، حتى ليتراء للآخر البعيد أن فلان من الناس لا يمكن التقارب والتعايش معه، وقد لايقف الأمر عنده فقط؛ كشخص؛ ولكن قد يعمم هذه الصورة على الآخرين من حوله، ويقنعهم بصواب ما يراه، فتتسع دائرة التأطير على هذا الشخص من الناس، وقد يساء فهمه في مواقف كثيرة، وقد يظلم بـ "الظن" وهذه من الأمثلة الملموسة في المجتمع، وعموما لا يمارس هذا الإصرار على تأطير الآخرين إلا من كان قلبه شيء من أدران الحسد، والغيرة، متغافلا بذلك عن عيوبه الكثيرة، وشمائله السمجة القبيحة، وليس العاقل من يسلك هذا السلوك المشين.
يأتي تغيير القناعات كأحد أهم الوسائل الذاهبة إلى فك التأطيرات المقامة على الآخرين، أو على الموضوعات الأخرى في الحياة، ولا يصل إلى هذا المستوى من السلوك إلا صاحب التجربة الحياتية العميقة، التي تدرس الحالة من جميع جوانبها، ولا تعطي أحكاما مطلقة لمجرد الشبهات، وإنما تنطلق من قناعات ذاتية، ومن تجارب شخصية وجماعية، ومن إقامة مجموعة من المقارنات، والمقاربات بينه وبين من يريد أن يزيل عنه مجموعة الأطر المنسوجة حول فرد، أو حول موضوع ما، وهذا المستوى من الوعي يحتاج الكثير من حيادية اتخاذ القرار، ومن الموضوعية التي تفرض انطلاقا من متطلبات الواقع الذي يعيشه، وقد يأتي تغيير القناعات؛ أحيانا من المواقف الصادمة، وهذه لها ردة فعل في اتجاهين: إما أن يكون إيجابيا، وإما أن يكون سلبيا.
تتمثل أهمية القراءات الناقدة؛ وهي المتمثلة في البحث والدراسات الميدانية؛ أنها تعيد تشكيل الكتل المؤطرة؛ وتعيد إنتاجها لتحدث فيها ولادة جديدة، وهذا الأمر مرهون بوجود خبرات عميقة من الوعي والإدراك، ومن الاختصاص، ومن فهم للعناصر المتشابكة في موضوع ما، بالإضافة إلى الاهتمام الكبير والمتابعة لما يحدث على أرض الواقع، ولا بد أن تتبناها مؤسسات معنية بأحوال المجتمع، وبتطورات الظواهر الاجتماعية التي تحدث فيه، وبحركة الأفراد في تقارباتهم، وفي تصادماتهم، مع أن الظواهر الاجتماعية قائمة منذ الأزل، إلا أنها تتخذ في كل فترة زمنية شكلا معينا منبئا مع مجموعة التغيرات التي يشهدها أبناء المجتمع، وهي متغيرات حاصلة بفعل حركة الناس، وتطوراتهم الفكرية، وقدرتهم على التفريق بين الخطأ والصواب، أو قدرتهم على أعطاء أحكام استباقيا لما سيكون عليه الحال بعد فترة من الزمن، وبالتالي فالقراءات النقدية مهمة في كل مرحلة زمنية حتى لا تتكرس صور نمطية، وتأطيرات مفاهيمية يسقطها الناس بعضهم على البعض، فيؤدي إلى تأزم العلاقات، ووهن القوى الاجتماعية الفاعلة، فانتشار مفاهيم التأطير بين أبناء المجتمع يؤدي إلى تكريس الصور النمطية بينهم، مما يؤدي إلى تحزبات فئوية، ومجموعات أسرية، وتكتلات قبلية، وهذه في حالة تكاثرها؛ لن تكون في الصالح العام الذي ينتظر من أفراده التعاون، والتكاتف، والتوافق، والتناصر، والإعلان عن قدرة مجتمعية ناجزة.
تلعب العواطف والمشاعر دورا مهما في المسألة التأطيرية، وهذه الصورة تلاحظ أكثر في تباينات الأعمار، فالأطفال لا يزالون متحررين من مختلف التأطيرات؛ حتى وإن فرضها عليهم الكبار، من حولهم، لأن ذهنياتهم لا تزال بيضاء نظيفة، بينما لما يأتي الأمر إلى الكبار في السن، فإن هناك أطرا كثيرا تحد من نشاطاتهم، هذه الأطر تتمثل في القيم، وفي القناعات، وفي المكتسب من مختلف الممارسات "اسأل مجرب؛ ولا تسأل طبيب" فالأطر هنا بمثابة عوامل تحد من الانطلاقة الحقيقية التي يريدها الفرد في حياته، لأنه يحسب للعواقب، وأنه؛ ربما؛ شيء قد يحدث خارج الحسبة، وهذه كلها تأويلات لا تخضع لمنطق، وإنما يستشفها الناس من خلال عقد مقارنات بين الأحداث، ومن ثم تبنى حولها أطر افتراضية فتحد من الاستمرار بصورة مغمضة العينين.
