البعد الإنساني في مصطلح الـ «شعب/و ي ة»
تأتي مصطلحات: (العوام، القطيع، الدهماء، الحشد، القروي، القاعدة الشعبية، الشعبوية، الشوفينية) وغيرها من المنتمين إليها كإحدى المحطات المهمة في الثقافة الاجتماعية، وينظر إليها بشيء من الاهتمام نظرا للدور الذي يسند إليها، أو النتائج المتوقعة من توظيفها، ومع أن لكل مصطلح من هذه المصطلحات تعريفا علميا محددا؛ ليس هنا مجال الحديث عنه؛ تتسع فيه رؤية المعرفة، إلا أنها في نهاية الأمر هي موسومة بشيء من الشعبية، والشعبية هنا - ومن خلال هذه المناقشة - لعلها تبحث عن شيء يعيد إليها شيئا من حمولتها الاجتماعية المستحقة، والتي «سقطت بالتقادم»، ويأتي ذلك لأن لها مقارنة وجاهية هي التي تضعف مكانتها، لأنها متضادة معها، وليست متفقة؛ وهذا التضاد أيضا في بعديه الأفقي والعمودي، ولذلك تحتاج هذه المصطلحات أو المفاهيم؛ في حالة تطبيقها؛ إلى شيء من رد الاعتبار؛ إن يصح التقييم؛ فالعوام؛ يقابله الخواص، والقطيع؛ يقابله اللحمة والالتفاف، والدهماء يقابله؛ العامة، الحشد؛ يقابله المجموعة؛ ببعديها الأكبر والأصغر، القروي؛ يقابله المدني (ابن المدينة) القاعدة الشعبية؛ يقابلها ما يطلق عليها «النخب» وإن كانت النخب الآن بدأت تتلاشى في حاضنة التخصص، والشعبوية لا تختلف عن سابقاتها، وإن سخرت للتوظيف السياسي، الشوفينية؛ يقابلها التعصب، ففي كل هذه المصطلحات هناك هاجس خفي يذهب إلى التقليل من شأن الإنسان المصنف ضمن هذه الفئات، وهو تصنيف مجازي، يؤصله ما يدور في خلده شيئا من «الشوفينية» مع أن كل هذه المصطلحات أيضا تخضع للتوظيف السياسي بلا جدال، أكثر من أي توظيف آخر، ولأننا أناس اجتماعيون حتى الثمالة، فما نخافه أكثر هو التوظيف الاجتماعي حيث حاضنتنا الكبرى، بخلاف التوظيف السياسي المؤقت عادة بظروف استثنائية/ مرحلية، وعندما نتحدث عن التوظيف الاجتماعي، فجل ما يستخدم في الإساءة إلى الآخر، والتقليل من شأنه، فإذا أرادت مجموعة من الناس أن تشير إلى شخص ما للنيل من شخصه، فسريعا ما تذهب به على أنه من (العوام، القطيع، الدهماء، الحشد، القروي، قاعدة الهرم الشعبية) ومعنى ذلك أنه لا يستحق أن يشار إلى أهميته، وفي كل ذلك هو تأصيل «لعلم الجهل» أي تجهيل الحقائق عن وزنها المعرفي، أو الاجتماعي، ومعنى هذا أيضا هو تحويل هذه المصطلحات إلى مفاهيم يؤمن بها الناس في حياتهم اليومية، ويوظفونها التوظيف السيئ، فبدلا من أن تكون مصطلحات ومفاهيم محددة لهذه الفئات التي يشار إليها بشيء من الأهمية، تصبح من الفئات التي يشار إلى تحقيرها، وإلى التقليل من شأنها، مما يستدعي الأمر أن أفراد هذه المجموعات - وفق هذه التصنيفات - لكي تجد لها توازنا في حاضنة المجتمع أن تحقق شيئا من الإنجاز المادي، فلعل لها أن تحظى بشيء من العطف في إعادة تسميتها أو نقلها من خانتها الحالية «المتواضعة» إلى خانة أخرى توازي أهمية المنجز، ويشار إليها بالبنان، والسؤال هنا: هل هذا الأمر طبيعي؛ في زحمة المعارف التي تتدافع على تغيير الكثير من المفاهيم الاجتماعية التي تحتاج إلى إعادة تعريف؛ حتى لا يساء أحد في حقه؟ من جميل ما قرأت هو ما كتبه الباحث والكاتب خميس العدوي، تحت عنوان: «الكتابة الشعبية .. وأثرها السياسي» ونشرته جريدة عمان في عددها الصادر في الأول من أغسطس/ 2022م، ومما استوقفني في هذا الطرح - وهو ما يقترب مما هو مطروح في هذه المناقشة كمقاربة لا أكثر؛ قوله: ««الكتابة الشعبية».. مصطلح معروف قديما، وإن استعمل في غير هذا المجال، وإطلاقي له على هذا النوع من التآليف؛ لا يعني أنها ليست ذات قيمة علمية، بل لها قيمتها من الحقول والمناهج التي كتبت بها، كما أن المصطلح لا يحمل أي استنقاص، إنما هو توصيف للأسلوب الذي كتب به فحسب (...) إن ما أقصده بـ«الكتابة الشعبية» هو قدرتها على النفاذ إلى قلب الاجتماع البشري، فهي تلهب عواطف قرّائها، وتقرّب لهم الفكرة، وتغيّر من سلوكهم، دون أن يبذلوا جهدا عقليا كبيرا، فالناس.. بغالب طبيعتهم مقلِّدون، وعندما يجدون السبيل ممهدا ينسابون كالماء نحو أفكار هذه الكتب النازلة لإدراكهم» وفي فقرة سابقة من ذات المقال يقول: « الكتابة الشعبية».. شكّلت جسر عبور للأفكار إلى عموم الناس، ففي حقلنا الإسلامي -مثلا- كانت مدونات أهل الحديث ثم مؤلفات أهل الفقه هي الأقرب إلى نفوس الجماهير، فصنعت عقولهم، وصاغت معتقداتهم، بل دفعت مجاميع منهم بحماسة إلى أتون الصراعات، استغلالا من السياسي بما يفطنه من قدرة هذا الخطاب على تجييش الجموع وإثارة الحمية في النفوس. في حين.. لم تتمكن من ذلك كتب الجدل الكلامي والتنظير الفلسفي؛ ذات اللغة الجافة والمصطلحات المغلقة، المتعالية على عموم الناس» - انتهى النص.
الذي ألتفت إليه هنا في هذه المناقشة أنني أكْبر في مجمل المصطلحات أعلاه، والتي حولت إلى مفاهيم للتوظيف غير المتوافق مع أهمية المعاني الكبيرة التي تحملها هذه المصطلحات، أكبر فيها القيم المعنوية ذات البعد الإنساني؛ العالية، سواء بحمولتها الاجتماعية الكبيرة؛ وهي الأهم؛ وسواء بأهمية الدور التوصيفي لأفراد المجتمع الذي تقوم به؛ وهو الذي لا يقل أهمية؛ وسواء بضرورة التوظيف المعرفي الأمين لهذه المصطلحات والمفاهيم، وإعطائها وزنها الحقيقي، وتأصيل ذلك في الذاكرة الاجتماعية، وليس إسقاط أهميتها، وإنزالها منزلة التلاعب بالمشاعر، وكأنها معروضة كسلعة سوقية تتقاذف أهميتها القيمة السوقية في لحظات معينة، ومن ثم توضع على الجنب؛ حيث تجف نضارتها، فتصبح من سقط المتاع؛ فيقينا أنها أجل من ذلك وأسمى، لأنها عند هذه النتيجة أعلاه، تصبح المفاهيم مغربة عن واقعها؛ وواقعيتها، وفي ذلك تصدير للجهل والحمق، وجعل الثقافة الاجتماعية غير قادرة على التوظيف السليم لها، حيث إنها «شعبية» وكفى، كما هو الحال في تصنيف الأحياء السكنية، فهناك أحياء راقية بمواصفات فنية مختلفة، وسكنها غير متاح للجميع، وهناك الأحياء الشعبية التي تتضاءل فيها هذه المواصفات الفنية؛ وهي التي تستوعب قاعدة الهرم الشعبية؛ كما هو التصنيف الاجتماعي، وطبعا لا مقارنة بين الحيين، وفقا للمواصفات الفنية «الاحتفالية» وبالتالي فحتى يتحرر ما يطلق عليه الـ «شعبي» من شعبيته عليه أن يمر بمراحل من الترقي المادي والاجتماعي، وإلا ظل مكتويا بشعبيته، حتى وإن حقق إنجازا معرفيا مهما لن يسعفه من التحرر من مأزق شعبيته هذه، وكأنها وصمة عار على جبينه «شيء غريب جدا».
من الاستراتيجيات المهمة في «علم الجهل» الاستراتيجية السابعة والتي نصها: «إبقاء الشعب في حالة من الجهل والحماقة وتستخدم هذه الطريقة لجعل الشعب غير قادر على استيعاب الوسائل والطرق المستعملة للتحكم به واستعباده» والاستراتيجية التاسعة، والتي تنص على: «إقناع الفرد بأنه المسؤول الوحيد عن تعاسته بسبب قلة ذكائه وضعف قدراته وضآلة مجهوداته» - انتهى النص - وفي كل ذلك إمعان في تعزيز الصور النمطية في كل ما يشير أو يذهب إلى أي شيء يحمل مسمى «شعبي» ومع ذلك فالشعوب على امتداد البسيطة لن تستغبى إلى الحد الذي يجعلها الآخر مطواعة، ومذلة، ومهانة، وإن علت لغة التغريب في توظيف المصطلحات، خاصة اليوم في ظل توفر المعرفة بصورة لم يسبق لها مثيل عما كان، وهذا من شأنه أن يرفع الكثير من القيم المعرفية، سواء كمفاهيم موظفة توظيفا سياسيا، أو توظيفا اجتماعيا، مع الأخذ في الاعتبار أن الأجيال اليوم؛ سلت نفسها أو تكاد من التخندق في المفاهيم التقليدية، حيث تعيش حياتها وفق مفهوم السوق (الربح والخسارة) ولا يهمها كثيرا مسألة التوصيف والتصنيف الاجتماعي الفئوي، غيرها أجيال الأمس التي تتكئ كثيرا على مجموعة من القناعات التقليدية.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
