الباخرة الفلسفية في الذكرى المئوية لطرد النخبة الفكرية الروسية

10 أكتوبر 2022
10 أكتوبر 2022

الترجمة عن الروسية: يوسف نبيل -

منذ مائة عام انطلقت من روسيا السوفييتية بعض وسائل النقل، وحملت على متنها نخبة المفكرين والمثقفين في البلاد، ومن بين هؤلاء المطرودين أطباء وخبراء زراعيون ومهندسون. نضجت حينها الحكومة السوفيتية إلى درجة أنه مع بدء تنفيذ السياسة الاقتصادية الجديدة حدثت مجاعة رهيبة في منطقة الفولجا وأدركت الحكومة استحالة السماح بأي تفكير غير موثوق فيه في البلاد ومن ثم طردت أفضل العناصر. لم تكن باخرة فلسفية واحدة، فقد غادرت من بيتروجراد وحدها باخرتان، وغادرت أيضًا بواخر فلسفية من أوديسا وسيفاستوبول. غادر كذلك قطاران من موسكو؛ أحدهما أقلّ الفيلسوف فيودور ستيبون إلى ريجا «عاصمة لاتفيا» بينما أقلّ الآخر عالم الاجتماع بيتريم سوروكين إلى برلين. في 24 من سبتمبر تذكر ستيبون: «غادر القطار مساء.. توقد مصباحا كيروسين خافتان بحزن على الرصيف الرطب».

قرّر لينين مصيرهم مبدئيًا، وحتى قبل هجومه الأول في مايو 1922 أبدى غضبًا شديدًا من أساتذة الجامعة المناهضين للثورة. لكن الأجواء السائدة في البلاد وقتها هيّأت المجال للطرد، بما يتضمنه ذلك من طرد طوعي لمن لم يتركوا روسيا أبدًا من قبل. في ربيع 1922 قرر فلاديسلاف خوداسيفيتش ونينيا بيربيروفا الهجرة، وحينها سمحوا فجأة في موسكو بإصدار جوازات سفر أجنبية. وضّحت نينا بيربيروفا في مذكراتها الشهيرة الأسباب: «في البداية ظهرت لنا النهاية في الهواء كاستعارة محتومة، وكتجريد جماعي أيضًا على ما يبدو يزداد وضوحًا يومًا بعد يوم... لم يكن دمارًا شخصيًا بل جماعيًا ومهنيًا ومخططًا». في يونيو 1922 سافر خوداسيفيتش وبيربيروفا إلى برلين بالقطار عبر ريجا.

بدا موقف لينين تجاه بعض هؤلاء المطرودين لاحقًا شديد السلبية. في عام 1918، في مقال خاص حطّم بيتريم سوروكين، ومن الجدير بالذكر أنه في عام 1922 شُكِّلت مجلة «تحت راية الماركسية» ودعت إلى توحيد حدود المعرفة الفلسفية البلشفية. بيّن تروتسكي ضرورة إصدار المجلة في العددين الأول والثاني منها بتعبيرات معتدلة نسبيًا: «... من المحتمل جدًا أن تحدث محاولات للاستيلاء على وعي الشباب العامل من جانب مختلف المدارس والتيارات الفلسفية المثالية وشبه المثالية». في العدد الثالث تحدث لينين عن الموضوع بحدة أكبر في مقاله: «عن أهمية الفلسفة المادية المحاربة» رفس فيه بيتريم سوروكين وأظهر أنه مثال يوضح ضرورة أن يحارب الماركسيون طبقة ملّاك الأراضي المثقفين الذين يحظون بعدد من المعلمين والرفاق الأجانب: «على الأرجح يتلقون جزءًا لا بأس به من أموال الدولة ويعملون في وظائف حكومية لتعليم الشباب».

حتى قبل ذلك بفترة برّر لينين في رسالة أرسلها إلى الرفيق الحزبي مياسنيكوف الحاجة إلى إلغاء حرية الصحافة لأنها تعني حرية التنظيم السياسي وهو أمر غير مقبول. في فبراير 1922 تساءل عن الأساس الذي تعمل وفقًا له دور النشر الخاصة في روسيا، وكانت هناك شائعة محددة عن استيائه وصفتها نينا بيربيروفا: « إن كل شيء سيُغلق قريبًا». في رسالة شهيرة إلى السياسي السوفيتي دزيرجينسكي في 19 مايو 1922، قبل أيام قليلة من إصابته بالسكتة الدماغية، قرر لينين مصير المدرسة الفلسفية في روسيا حيث أثار مسألة «طرد الكتّاب والأساتذة الذين يدعمون الثورة المضادة إلى الخارج، ونقل كل هذه المهام إلى عهدة شخص عاقل ومثقف ودقيق في جهاز الشرطة السرية». في أغسطس ناقش المؤتمر الثاني عشر للحزب الشيوعي مسألة: «الأحزاب والتيارات المناهضة للحركة السوفيتية». نص قرار المؤتمر على الآتي: «.. لا يمكن للمرء أن يرفض استخدام القمع، ليس فقط تجاه الاشتراكيين الثوريين والمناشفة، ولكن أيضًا تجاه النخب السياسية من المثقفين البورجوازيين الديمقراطيين المزعومين غير الحزبيين». في 10 أغسطس وافق المكتب السياسي على قائمة المنفيين.

لفت الفيلسوف فلاديمير كانتور الانتباه إلى حقيقة أن أحد الكتب التي أثارت غضب لينين كانت عبارة عن مجموعة مقالات عن كتاب شبنجلر الذي أدهش المثقفين الروس بعنوان: «أوسفالد شبنجلر وتدهور الحضارة الغربية» من تأليف: نيقولاي بيرديايف وفيودور ستيبون وسيميون فرانك وياكوف بوكشبان. طُرد الفلاسفة الثلاثة وبقى بوكشبان في روسيا، وفي عام 1939 اعتُقل لأول مرة في قضية حزب الفلاحين العمال، وفي عام 1939 أعدم رميًا بالراص في كوموناركا. وصف لينين هذا الكتاب بأنه «ستار أدبي عظيم لمؤسسة الحرس الأبيض» (يعني بالحرس الأبيض القوات الموالية للنظام القيصري القديم والمناهضة للشيوعيين).

قلة من الفلاسفة البارزين أرادوا الرحيل بالرغم من معاناتهم بالفعل من الخوف من النظام السوفيتي. قال فيودور ستيبون أثناء استجوابه في سبتمبر 1922: «موقفي سلبي من الهجرة». قبضوا على نيقولاي بيرديايف عدة مرات. في عام 1920 استجوبه دزيرجينسكي شخصيًا، وبعد الاستجواب تأثر بالمحاضرة التي ألقاها عليها بيرديايف وسأل الرفيق مينجينسكي: «تأخر الوقت وأعمال العصابات تزداد. هل من الممكن اصطحاب بيرديايف إلى منزله بالسيارة؟». أقلوه على دراجة بخارية. سأل رئيس السجن بيرديايف بلطف مثلما فعل مدير مصحة في مكان ما في دافوس: «هل أعجبك المكان هنا؟». منذ ربيع 1922 شعر بيرديايف مثل كثيرين كخوداسيفيتش وبيربيروفا بتغيرات في الأجواء. قضى الفيلسوف صيف هذا العام في بارفيخا. في اليوم الوحيد الذي قضاه في موسكو قبضوا عليه. بعد أسبوع أعلن المحقق عن خطط طرده من البلاد خوفًا من إعدامه. طردوا مجموعة من العلماء والشخصيات العامة الذين ( على حد تعبير بيرديايف ) «صنفوهم في قائمة الميؤوس منهم فيما يتعلق بتحولهم إلى العقيدة الشيوعية».

تمكن أحدهم من الاعتذار بأعجوبة، وحتى هذه المرحلة لم يود جوستاف شبيت الرحيل عن روسيا لدرجة أنه استطاع إخراج أناتولي لوناشارسكي من قائمة المرحَّلين. شارك الفيلسوف في مبادرة مفوض الشعب لشؤون التعليم وأكاديمية الدولة للعلوم الفنية التي تأسست منذ عام 1921، وتمكن العديد من المطرودين من المشاركة في أنشطتها. صار شبيت رئيس القسم الفلسفي ثم نائب رئيس أكاديمية الدولة للعلوم الفنية التي كانت في منطقة بريتشيستينكا في مدرسة الجيمنازيا الشهيرة السابقة بوليفانوف، التي لم يخرج منها الجميع؛ من فولوشين إلى بيلي، ومن بيريوسوف إلى بوتفينيك. سامحوا شبيت بغض النظر عن حقيقة أن عمله الصادر في 1922 «شرح مخطط تطور الفلسفة الروسية» وضّح أسباب التأخر العقلي؛ بمعنى التأخر السياسي. مع ذلك، وفي الكتاب ذاته أشار إلى أسباب بقائه في روسيا حيث راوده أمل عاطفي في إحياء الفلسفة في روسيا:«.. لديّ أساس لإيماني بعصر نهضة روسية وبطبقة مثقفة جديدة وصحية وشعبية، وبأرستقراطية موهوبة إذا تطلب الأمر».في 1929 بدأت الاعتقالات في أكاديمية الدولة للعلوم الفنية. في 1930 أُغلقت الأكاديمية. في 1934، وبعد مقتل كيروف (سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشوعي) قال شبيت: «ستبدأ الاعتقالات الآن». في ربيع 1935 وصل أعضاء المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية إلى الفيلسوف.

في هذا الوقت، وعلى الجانب الآخر من الحدود، حاول كل المنفيين تدبير أمورهم بقدر المستطاع؛ على سبيل المثال حصل ستيبون على درجة الأستاذية في مدرسة دريسدن التقنية، ولكن سرعان ما بدأوا يكتبون إدانات ضده لأنه لم يعد من وجهة نظرهم بلشفيًا بل نازيًا! لم يمتثل لقانون 1933 بشأن: «إعادة توجيه طبقة الموظفين المحترفين». قالوا عنه: «نفى ستيبان مرارًا في محاضراته آراء الاشتراكية القومية». مع ذلك طردوا إيفان إيلين أيضًا من ألمانيا النازية على الرغم من أن آراءه كانت محافظة للغاية حتى أنه سَوَّغ موقف الفوهر: «... لقد أوقف عملية البلشفة في ألمانيا».

باختصار شعر الفلاسفة بالحصار بين حجري رحا مستعدين لطحنهما بقوة عجيبة بالقدر ذاته. لم تتحقق آمال سيميون فرانك الذي أراد أن ينقل تجربة إرشادية إلى أوروبا حتى تتجنب «كومة عبثية من صنوف الفظائع والنجاسات والمعاناة»، وقال: «نحن الروس الذين دلفنا إلى أعماق الجحيم سنساعد الآخرين على العثور على طريق القيامة الروحية».

لم تستطع الفلسفة وعلم الاجتماع أن يرفعا رأسيهما قليلا إلا في الخمسينيات والستينيات مع أجيال ضمت مثلا: ميراب مامارداشفيل ويوري ليفاد. لسبب ما اتجهت طبقات المثقفين في روسيا إلى الاتجاه الذي سلكته شخصيات مسرحية «الهروب» لبولجاكوف أو «الركض» لألدانوف. لم يستطع واحد من المطرودين بأي تفاؤل متعمد لم يتحقق فيما بعد أن يقول ما قاله خوداسيفيتش بعد رحيله:

أضع عنقي تحت النير

أعيش في المنفى والحنين

مصطحبًا روسيا معي

في حقيبة سفر

دار في ذهنه حينها حقيبة سفر تحوي ثمانية مجلدات لأعمال بوشكين.

أندري كوليسنيكوف صحفي ومدير البرامج في مركز كارنيجي في موسكو.