الانقلاب العسكري في النيجر وأزمات إفريقيا
جاء الانقلاب العسكري في النيجر مؤخرا، الذي أطاح بالرئيس المنتخب محمد بازوم من قبل المجموعة الانقلابية التي قادها الجنرال عبدالرحمن تشياني، مفاجأة غير متوقعة، لتضفي المزيد من التعقيد السياسي والأزمات المتواصلة في إفريقيا منذ عهد الاستقلال وانسحاب القوات الاستعمارية الغربية. ومن هنا بدأت ملامح جديدة للصراع في إفريقيا المشتعل في عدة دول منها السودان والآن النيجر. كما أن الأوضاع في دول غرب إفريقيا والساحل ليست مستقرة خاصة في مالي وبوركينا فاسو وحتى السنغال. وبدأت دول مجموعة غرب إفريقيا في اتخاذ عدد من القرارات ضد المجموعة الانقلابية في النيجر منها العقوبات الاقتصادية وحتى إعطاء مهلة أسبوع لعودة السلطة الشرعية أو استخدام القوة العسكرية.
إن الأوضاع في النيجر ودول غرب إفريقيا التي شهد بعضها انقلابات عسكرية يعطي مؤشرا على تواصل الأزمات في إفريقيا خاصة وأن التدخلات الخارجية في هذا الجزء الحيوي من العالم موجودة فهناك الوجود العسكري الفرنسي كما أن قوات فاجنر الروسية تنشط في إفريقيا والولايات المتحدة الأمريكية ليست بعيدة عن المشهد الإفريقي.
والتكالب الغربي وحتى الصيني والروسي على إفريقيا سواء من خلال الوجود العسكري الفرنسي تحديدا أو استخدام القوة الناعمة كالاستثمار الصيني والاهتمام الروسي المتزايد الذي توج بالقمة الروسية الإفريقية في سان بطرس بيرج هو تكالب حتمته الثروات الإفريقية خاصة مصادر الطاقة والمعادن. فالنيجر على سبيل المثال تملك كميات كبيرة من اليورانيوم وهو إحدى أدوات الطاقة النووية السلمية والعسكرية كما أن هناك معادن الألماس والذهب، علاوة على النفط والغاز خاصة في دول غرب القارة. ومن هنا فإن الصراعات والحروب والخلافات التي شهدتها إفريقيا خلال الخمسة عقود الأخيرة كان سببها الصراع على الثروة والنفوذ. ومن هنا جاءت ظاهرة الانقلابات العسكرية في معظم دول القارة أما من خلال الدول الاستعمارية الغربية وأذرعها خاصة شركات النفط أو من خلال جهات محلية مرتبطة بجهات خارجية لتعيش الشعوب الإفريقية في ظل الفقر والمشكلات الاجتماعية والاقتصادية والديون والتخلف عن طريق التنمية المستدامة التي تحققت بشكل ملفت في أجزاء أخرى من العالم أقل ثروات ومقدرات كدول جنوب شرق آسيا التي خرجت هي الأخرى من حروب وصراعات كبيرة خلال العقود الأخيرة.
الوضع في النيجر قد يتمدد إلى الدول المجاورة خاصة وأن الأنظمة العسكرية في مالي وبوركينا فاسو أعلنت وقوفها مع قادة الانقلاب العسكري في النيجر رافضة قرارات مجموعة غرب إفريقيا ولذا فإن المشهد السياسي في النيجر يعد معقدا خاصة إذا حدث أي تدخل عسكري خارجي أو تواصل فرض العقوبات الاقتصادية من المجتمع الدولي. كما أن هناك صراعا خفيا بين الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية من جانب، وروسيا الاتحادية من جانب آخر، على ضوء الصراع الأكبر وهو الحرب الروسية الأوكرانية وفي ظل الاستقطاب السياسي والاستراتيجي الذي يشهده العالم.
إن أزمات إفريقيا تتواصل خاصة وأن هناك على الطرف الآخر حرب استنزاف متواصلة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع وهي مواجهة كارثية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى كما أن ليبيا ليست مستقرة وحتى تشاد الذي يعد أول رئيس حكومة انتقالية يزور النيجر وعاصمتها نيامي للتوسط للإفراج عن الرئيس الشرعي محمد بازوم، ويبدو أن محمد إدريس ديبي الذي خلف والده في السلطة بعد حادثة الاغتيال نجح إلى حد ما في ظهور الرئيس الشرعي محمد بازوم في القصر الجمهوري، ولكن الأمر المعقد هو أن المجموعة الانقلابية ألقت القبض على عدد من الوزراء وهددت بالتصدي لأي تدخل عسكري خارجي خاصة من فرنسا التي تعرضت سفارتها في نيامي للاعتداء وهو سلوك غير مقبول؛ لأن البعثات الدبلوماسية تحكمها اتفاقية جنيف لحماية المقرات الدبلوماسية للدول حتى عند وقوع الأزمات.
إن العلاقات الإفريقية الفرنسية تضررت كثيرا خلال السنوات الأخيرة خاصة في دول مثل مالي وتشاد وبوركينا فاسو والآن النيجر وأصبح هناك شعور متزايد لدى الشعوب الإفريقية بأن الاستعمار القديم هو سبب نكبة تلك الشعوب من خلال السيطرة على الثروات الطبيعية التي أشرت إلى بعضها. ومن هنا فإن هناك تحولا حقيقيا في الفكر الإفريقي ولعل القمة الإفريقية الروسية الأخيرة قد كشفت عن جزء من ملامح ذلك التحول الاستراتيجي، وليس هناك شك أن العملاق الآسيوي الصين أصبحت لاعبا أساسيا في إفريقيا، من خلال قوتها الناعمة التي تتمدد في القارات الثلاث، وهي آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. ومن هنا شهد الاستثمار الصيني في إفريقيا خلال العقد الأخير عشرات المليارات في البنية الأساسية من بناء القطارات والموانئ والمشاريع الإنتاجية، وكان هذا السلوك الصيني الذي سوف يتبعه السلوك الروسي وقوى أخرى من الشرق الأوسط خاصة الدول الخليجية سوف يغير سلوك إفريقيا سياسيا واقتصاديا على اعتبار أن الاستعمار الغربي ترك إفريقيا فريسة للثالوث الأمراض والفقر والجهل، وهي مقارنة سوف تزداد حدة مع تلك الانقلابات العسكرية التي كان سببها الأساسي هو ارتباط عدد من الأنظمة الإفريقية بمصالح متعددة مع الدول الاستعمارية الغربية.
إن الوضع في النيجر يعطي صورة معبرة عن الوضع في إفريقيا من خلال مظاهرات الشعب فيها وهو يرفع العلم الروسي، ويعتدي على السفارة الفرنسية مما يعطي الأوضاع في دول غرب القارة الإفريقية تحولا سياسيا يتعدى حتى مفهوم الانقلابات العسكرية إذ إن الأخيرة هي فقط سلوك عن إحباط بعض النخب في إفريقيا من الأوضاع الصعبة والمتردية في دول تملك الكثير من المقدرات التي تجعل منها دولا متطورة على الجانب الآخر فإن مفهوم الانقلابات العسكرية من الناحية القانونية غير مقبول، حيث إن صندوق الانتخابات هو الفيصل كما أن استمرار تلك الانقلابات العسكرية في إفريقيا قد يعطي الآخرين فرصة للتدخل الخارجي ويدخل تلك الدول في حروب وصراعات أهلية، كما حدث في الكونجو ورواندا وغيرها من الدول الإفريقية، ومن هنا فإن الحل السياسي الواقعي هي أن يواصل الرئيس الشرعي محمد بازوم مدته المتبقية أو الدعوة إلى انتخابات مبكرة مدنية بحيث يجنب ذلك النيجر المشكلات والعقوبات الاقتصادية التي سوف تكون كارثية على شعب النيجر الذي هو أساسا يعاني من مشكلات حياتية عديدة حاله في ذلك كحال معظم الدول الإفريقية، التي تحتاج إلى خطط إصلاحية للنهوض بشعوبها، وأن يكون نموذج رواندا حاضرا في الفكر الإفريقي. أما على صعيد فرنسا فيبدو لي بأنها خسرت الكثير من نفوذها الأفريقي التقليدي وأن الصين وروسيا وحتى عدد من دول مجلس التعاون الخليجي قد تؤدي دورا محوريا على صعيد الشراكة الاقتصادية مع إفريقيا التي حان الوقت أن تكون أحد النمور الاقتصادية في العالم وتبتعد عن الصراعات والحروب والانقلابات العسكرية.
