الاستشراف الاستراتيجي.. عودٌ على بدء

22 نوفمبر 2022
22 نوفمبر 2022

في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي قرر البروفيسور فريدريك ترمان، عميد كلية الهندسة في جامعة ستانفورد الأمريكية السماح لشركة فاريان أسوشيتس بتأسيس فرعٍ لها داخل أراضي الجامعة كأول مؤسسة تجارية ضمن ما أسماه «مجمع ستانفورد للأبحاث»، الذي صار مهد مجمع وادي السيلكون للابتكار، وكان الهدف من إنشاء هذا المجمع هو استقطاب مؤسسات صناعية لتنفيذ أفكار تجارية قائمة على المعرفة الناتجة من البحوث العلمية والتطويرية في الجامعة، وذلك من أجل تنشيط عجلة الإنتاج الصناعي بطرق حديثة، وبناء هيكل صناعي حيوي قادر على توفير فرص عمل للخرجين، مما يسهم في رفع درجة استبقاء وتوطين خريجي الكليات العلمية والهندسية في تخصصاتهم، ويزيد من احتمال مواصلتهم للدراسات العليا والالتحاق بمؤسسات بحثية، والإسهام في إنتاج المعرفة التقنية والابتكار الداعم للاقتصاد.

ما قام به عميد كلية الهندسة آنذاك كان نوعا من التخطيط الاستباقي الموجه بالتفكير المنهجي حول مستقبل التنمية الاقتصادية في ولاية كاليفورنيا، لكنه كان حدثا غير مسبوق في مجتمع كان يؤمن إيمانا راسخا بالفصل الكامل بين القطاع الأكاديمي والبحثي الذي ينتج المعرفة السامية لخدمة الإنسانية، وبين قطاع الأعمال الذي يسعى لتحقيق الأرباح والمنافع، لم يعرف الكثيرون وقتها بأن هذه الفكرة غيّرت ملامح العمل والتعاون بين هذين القطاعين، وبدأت بذلك حقبةً جديدةً في توأمة المعرفة مع الصناعة والإنتاج، وبدأت الشركات كثيفة المعرفة بالانضمام إلى المجمع، مما استدعى إقامة أول حاضنة للأعمال في تاريخ البشرية عام 1959، من أجل التركيز على التطبيقات العلمية والمعرفية في الصناعة، وبمعنى أدق دعم تحويل المعرفة إلى ممارسة تجارية تدر ربحا لقطاع الأعمال والمجتمع، وبذلك انبثقت فكرة مُجمَّعات وحدائق العلوم والتكنولوجيا التي عبرت أمريكا الشمالية وغزت العالم أجمع.

استطاعت رؤية البروفيسور ترمان الاستشرافية تغيير ملامح الاقتصاد بمفهومه التقليدي القائم على الندرة، أي ندرة الموارد الطبيعية في مقابل التطوُّر اللامحدود لمتطلبات البشر، ومنحت المعرفة أهميةً مركزيةً في دعم النمو الاقتصادي والاجتماعي ورفع تنافسية الدول، ها قد مرت سبعة عقود على إدماج المعرفة التقنية ضمن عوامل الإنتاج الرئيسية في الصناعة، وأصبح الابتكار وسيلة إنتاج لا تقل أهميةً عن رأس المال، مما عزز من تكثيف الاستثمار في المعرفة والتقنيات عالية الدقة.

وهنا سؤال يطرح نفسه، هل بات التخطيط الاستباقي واستشراف المستقبل مطلبا حتميا مع وجود أمثلة لا تحصى لتجارب دولية خطت في هذا الاتجاه وحققت نجاحات كبيرة؟ وإذا عدنا بالذاكرة للماضي القريب حينما عصفت جائحة كورونا بالعالم، وكانت الأنظار تتجه نحو مختبرات البحث والتطوير لكي تنقذ البشرية وتوقف الوباء، ترى هل لو أن القطاعات الأكاديمية والعلمية والمعرفية والصناعية كانت على درجةٍ عاليةٍ من الاستباقية لكان التعامل مع تأثيرات الوباء مختلفا؟ إن التخطيط الاستراتيجي الاستباقي الموجه نحو صناعة المستقبل ضرورة لا غنى عنها في عالم تتسارع فيه التغييرات وتؤثر فيه العولمة، وتتراجع أهمية الحدود المكانية والجغرافية، وإذا عدنا للتاريخ باعتباره أهم مصانع التعلم سنجد أن شغف الإنسان في تخيل الحياة في قادم الأيام كان الدافع الرئيسي لما آلت إليه حياة البشرية من تطورات، وعلى مدى التاريخ استعان متخذو القرار بذوي الفراسة والبصيرة في استشراف مستقبل قراراتهم، وفي عالمنا المعاصر نجد الكثير من الأمثلة على انتهاج التخطيط الاستباقي، من أشهرها تجربة شركة شل في رسم السيناريوهات المستقبلية عن أسعار النفط ومستقبل الطاقة لاكتشاف أسواق جديدة، وهي تعد من المرجعيات والخبرات الرائدة والمميزة، وتستحق القراءة المتأنية والعميقة لأخذ الدروس المستفادة.

وتمتد أهمية التخطيط باستشراف الآتي لتشمل جميع مجالات العمل والحياة، إذ تستثمر مؤسسات صناعة الإعلام في إنتاج برامج وأفلام من فئة الخيال العلمي أو استقراء المستقبل، دعونا نستعير بعض الأمثلة الواقعية، فقبل غرق سفينة التيتانك بأربعة عشر عاما نُشرت رواية من نسج خيال مؤلفها وكان بحارا متقاعدا، سرد فيها قصة غرق سفينة عملاقة تم بناؤها لتكون قمة التطور الهندسي والتقني، وكذلك قد أنتجت هوليوود منذ عدة سنوات فيلما للخيال العلمي عن انتشار وباء غامض يكاد يقضي على جنس البشر، وهناك العديد من التطبيقات والمنتجات التقنية التي تحوي ألعابا إلكترونية عن مثل هذه الاستقراءات المستقبلية، هذه النتاجات الفكرية والفنية والتقنية ليست فقط مسلية وممتعة، ولكنها نابعة من خيال الإنسان وإبداعه الفكري وتجاربه وطموحه وتطلعاته، وكما تم توظيفها في الجانب الإبداعي بشكل متقن وناجح فمن الأولى الاستفادة من هذا النهج في تطوير العمل المؤسسي.

وهذا يقودنا لأهم محور في موضوع التخطيط الاستراتيجي الموجه نحو الاستشراف المستقبلي، وهو ماهية صناعة المستقبل في سياق التخطيط طويل الأمد، إذ يعتقد الكثيرون أن المقصود به هو رسم السيناريوهات وإطلاق الخيال في التوقعات، ولكنه في الأساس عبارة عن عملية ممنهجة من خلال اســتخدام الأدوات والأساليب الكميــة من إحصائيات وبيانـات عن الحاضـر والماضـي، وكذلك الأدوات النوعية أو الكيفيـة التـي تنبثق من آراء الخبراء واسـتنتاجاتهم، ثم وضع سيناريوهات مستقبلية تحدد أبرز التحديات من جهة، وأهم الفرص المستقبلية المواتية من جهةٍ أخرى، تليها عملية تأطير وتصور المستقبل المنشود، ثم تخطيط المسار إلى صناعته، وعليه فإن الاستشراف الاستراتيجي ليس التنبؤ بالآتي وإنما هو تقديم فهم أعمق للمستقبل، والإلمام بجميع الاتجاهات المحتملة، وبذلك يمكن رفع درجة الاستعداد وطريقة التفكير للتكييف مع مختلف التحولات، وكذلك زيادة احتمال صناعة واقع أفضل بتجاوز النظرة الآنية قصيرة المدى، التي قد تحجب العديد من فرص التطوير والتغيير الإيجابي.

تبدأ عملية الاستشراف الاستراتيجي بتحليل المعلومات والبيانات لاستنتاج جملة من المعارف والسرديات، التي تتطلب بدورها الفهم الواعي والمدرك لجميع العلاقات التبادلية فيما بينها ككلٍ متكامل، ثم تنتقل من الفهم إلى ما يسمى بمرحلة «الحكمة» وهو الوعي الكافي بعمق الواقع وأثره على المستقبل، وذلك من منظور يتبنى وجهة نظر شاملة في حتمية التغيير بوتيرة مستمرة ومتسارعة، ويستوجب الإدراك بالفروقات الجذرية بين سيناريوهات المستقبل المحتملة والمُمكنة والمفضلة، مع قبول فرضية وجود بدائل أخرى عديدة في المستقبل لم تشملها السيناريوهات، والخروج من محدودية الواقع، أو الوقوف عند النجاحات السابقة التي قد تشكل عقبة في فاعلية الاستشراف الاستراتيجي، إنما يستوجب استقراء الجهود الماضية والفوائد المكتسبة كأساس منطقي لتوسيع الطموح وليس لتكرار التجارب واستنساخها، فإن النقلات النوعية في الاقتصاد والاختراعات العلمية ارتبطت بالتفكير الابتكاري القادر على خلق مسارات جديدة للمستقبل، ووضع خطط التهيئة لها، وطرق التعامل مع تحولاتها الحتمية.

فنجد على سبيل المثال وفي سياق التمهيد للثورة الصناعية الرابعة التي تم استشرافها خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي، بأن اليابان قد بدأت في عام 1971 بوضع خطةٍ استراتيجية واستشرافية لملامح المجتمع الياباني بحلول عام 2000، وجاءت بعنوان «خطة لمجتمع معلوماتي: هدف وطني لعام 2000» وقد حددت هذه الخطة أنه بحلول عام 2000 يجب أن يعتمد الاقتصاد الياباني على المنتجات المعلوماتية وليس على الصناعات التقليدية. أما في تايوان فقد تم إقرار الخطة الوطنية للمعلوماتية بعنوان «الخطة العشرية لصناعة المعلومات في تايوان»، وذلك في عام 1980، ركزت على إبراز دور جميع المؤسسات ومختلف أطياف العمل في التخطيط لمستقبل المعلوماتية في تايوان بحلول الألفية الجديدة، والأمثلة كثيرة على الخطط الاستراتيجية التي تبنتها الدول والمؤسسات في سياق بناء القواعد الراسخة للدفع نحو اقتصاد المستقبل، جميعها تشترك في كونها مواكبة لمتطلبات الاستدامة الشاملة وتحقيق التنافسية، التي تشمل ركائز التنمية الخضراء والاقتصاد الدائري، وتسخير التقنيات التكنولوجية المتقدمة، وتعزيز الاقتصاد الرقمي والابتكار الموجه للأهداف التنموية، وتضمين الصناعات الثقافية والابداعية.

وإن الدرس الأهم من انتهاج التخطيط الاستباقي هو الاستفادة من قدرة هذا النموذج على وضع الاعتبارات اللازمة للتنبؤ المبكر بالتحديات وإدارة المخاطر أو الحالات غير المرغوب بها، عن طريق طرح الرؤى الاستشرافية التي تسهم بدورها في فهم مكامن المخاطر الحالية أو الناشئة أو المحتملة، مع تقييم احتمالية تكرار الدوافع المؤدية لنشؤها في المستقبل، وتقدير مدى تأثيرها بالأخذ في الاعتبار تزايـد حجـم ودرجـة تعقيـد المخـاطر المستقبلية، والآثار الاسـتراتيجية الـتي تنطـوي عليهـا المخـاطر الحاسمـة على وجه الخصوص، مما يدعم عملية اتخاذ القرار بموضوعية وفاعلية.

وبذلك فإن واضعي الخطط وراسمي السياسات ومتخذي القرار بحاجة إلى الالتفاف للأهمية المُلحَّة لصناعة المستقبل كأسلوب عمل مؤسسي، بتوظيف دراسات الاستشراف وأدوات رسم السيناريوهات، والنظر للمستقبل كمدخل رئيسي للخطط الاستراتيجية، وأخذ زمام المبادرة للتخطيط الاستباقي، والاستعداد بشكلٍ أفضل للتغيير، مع ابتكار الخيارات الاستراتيجية المناسبة، إذ لا يجدي انتظار المستقبل ثم الاستجابة لظروفه، في حين يمكن رسم المستقبل الذي نصبو إليه، والاستعداد له والعمل بكل جهد لتحويله إلى واقع.

كاتبة وباحثة في سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار