الارتداد الديمقراطي.. حالة عالمية
شكّلت الديمقراطية حول العالم حالة من التطور في التفكير البشري، منذ التأسيس النظري الأول لها، وحتى اليوم، إلا أنها في السنوات الأخيرة بدأت تشهد تراجعًا، تكثر النقاشات العلمية حوله فيما إذا كان تراجعًا حقيقيًّا موجودًا يُمكن ملاحظته أم غير موجود غير في الأذهان، ومع تزايد الصراعات في العالم، مثل الصراع الروسي-الأوكراني، والإبادة العالمية التي تحدث في غزة، والتطورات التي تصاحبها، وغيرها من الصراعات، ظهر تغليب لمنطق أو سياسات القوة، على السيادة والمبادئ السابقة، مما يسائل -مرة أخرى- الديمقراطية في صلاحية تطابق مبادئها مع الواقع، سواء الداخلي، أو ذلك المتعلق بالنظام الدولي، وهناك مؤشرات توحي بهذا التراجع في الديمقراطية، فأشار تقرير نشرته منظمة Freedom House في فبراير من هذا العام، أن هناك تراجعًا عالميًا في الحقوق والحريات السياسية، وذكر أن حوالي 60 دولة تراجعت في الحقوق السياسية والحريات المدنية، وأشار تقرير نشرته المنظمة نفسها في 2024 أن الحرية العالمية تراجعت للسنة الثامنة عشرة على التوالي، كما أشار تقرير نشرته مؤسسة V-DEM Institute أن الدول التي تشهد تحولات نحو السلطوية تزايدت من 12 دولة قبل عشرين عامًا إلى 45 دولة خلال 2024، وهذا يشير إلى أن المشكلات المتعلقة بالحريات والحقوق ليست منصبة فقط في السياسات الداخلية، وإنما متعلقة كذلك ببنية النظام الدولي نفسه.
في هذه الحالة، تقدم النظرية الواقعية في العلاقات الدولية نفسها باعتبارها عدسة اللحظة الراهنة: حيث إن المنظمات الدولية والفاعلين الآخرين غير الدولة، بدأوا يتعرضون لمساءلات عميقة تتعلق بفاعليتهم في النظام الدولي وقدرتهم على التأثير فيه، مع تنامي دور الدولة في تحريك كل تفاصيل التفاعلات تقريبًا، ولذلك فإن الشعارات الليبرالية بدأت بطريقة أو بأخرى تفقد بريقها في مقابل الواقع الذي تتحرك فيه كثير من الدول «الديمقراطية» نحو اليمين في الداخل، وتغليب سياسات القوة في الخارج.
يتضح هذا من خلال المفاوضات التي تخوضها أمريكا باعتبارها وسيطًا لحل الأزمة الروسية-الأوكرانية، فقد تغير الموقف الأمريكي من المشارك لدعم أوكرانيا، إلى الوسيط الذي يحاول حل القضية بالطرفين، لكن القضية ليست في الوساطة، بل في مطالبة أوكرانيا بالتنازل عن بعض أراضيها في مقابل وقف إطلاق النار، على الرغم من أن هذا يعزز لمنطق القوة في مقابل سيادة الدولة، فضلًا عن أنه يتجاوز الرغبة الشعبية، وبالتالي فإن المسألة ليست تتعلق بالتصويت على الانفصال أو ضم الأراضي أو غيرها، بل تتعلق بإجبار الطرف القوي (روسيا، أمريكا في هذه الحالة) الطرف الضعيف (أوكرانيا في هذه الحالة) على التخلي عن سيادته ورغبته الشعبية من خلال فرض القوة العسكرية مع القوة الناعمة، فيُمكن من خلال ذلك ملاحظة أن الأمر متعلق بالقوى الكبرى للتحكم في مسار الأزمة، لا بالديمقراطية الحقيقية، وعلى الرغم من أن مشاركة روسيا في هذه المسألة قد تبدو مفهومة من حيث النظام الداخلي الحاكم، إلا أن المشاركة الأمريكية في المسألة يطرح تساؤلًا جوهريًّا يتعلق بالديمقراطية ونشر «الدمقرطة» حول العالم، فهو انتقال لشرعية القوة، في مقابل تراجع الشعارات الليبرالية أو الديمقراطية سواء في الداخل أو في الخارج، وهذا يُمكن أن يفسر بعض ما يحدث في الداخل الأمريكي كذلك، من حيث اعتقال المحتجين على السياسات الإسرائيلية في غزة، أو الدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل، فاعتقال الطلاب والأكاديميين يتعارض تعارضًا صريحًا مع حريات التعبير، وكذلك استخدام المارينز لقمع الاحتجاجات، من خلال تجاوز الرئيس لصلاحياته الدستورية في الولايات.
يبدو أن النظام الليبرالي الذي تموضع في النظام العالمي ما بعد الحرب الباردة لم يعد قادرًا على حماية مبادئه التي نادى بها وحاول تطبيقها حول العالم، ليواجه الآن أزمة واقعية وفكرية ويتعرض لتساؤلات تتعلق بجوهره وجوهر المنظمات العالمية غير الحكومية، فضلًا عن حالة صعود القوى غير الديمقراطية في العالم مثل الصين أو روسيا (في بعض الأدبيات) وغيرها، وتناقض القوى الديمقراطية نفسها بين المبادئ والواقع، يفرض أيضا حالة من التساؤلات الجادة التي تنبئ عن تغير في البنية الهيكلية للنظام العالمي.
في الجانب المقابل، وعلى الرغم من تصاعد النظرية الواقعية لتفسير الأحداث العالمية، إلا أنها لا يُمكن لها أن تبرر الأحداث أخلاقيًّا على الأقل، وبالتالي فالأمر محكوم فقط بقوة الدولة وقدرتها على ضبط سياساتها الأمنية الداخلية أو الخارجية، وكذلك فإن الديمقراطية لا تزال مطلبًا شعبيًا عالميا، لا سيما في الدول التي تواجه الصراعات والحروب، لكنها تُختطف على مستوى السياسات العليا للدول، مما يجعل الأمر قابلًا للتساؤل والتداول المعرفي، من حيث النظام السياسي نفسه أولًا، والنظام الدولي ثانيًا، ومن هنا تصبح مساءلة الأدبيات الديمقراطية الكلاسيكية ضرورة لا يُمكن تجاوزها، فإلى أي مدى ينجح العالم في الحفاظ على السلام بين الدول الديمقراطية مثلًا؟ وهل يُمكن للدول التي تعيش في حالة التصاعد في الحريات السياسية والحقوق المدنية أن تحافظ على هذا المستوى دون أن تتراجع؟ وغيرها من الأسئلة، ومن هذا المنطلق يتولد تساؤل آخر استشرافي حول المستقبل المفتوح للعالم، إذ يسير باتجاهين متعارضين بشكلٍ ما، إما أن تتعزز وتتعمق الحالة السلطوية العالمية في الداخل والخارج أو أن تُكتشف صيغة أخرى للموازنة بين المبادئ ومنطق القوة بحيث يُمكن لليبرالية ما بعد الحداثة التي تعاني من الميوعة السياسية والأخلاقية والمعرفية أن تنجو.
الخلاصة أن التساؤلات الجوهرية في النظام الديمقراطي بحاجة لدراسة وبحث حقيقيين، فهل الصراعات الحالية تشكل مخاضَا لتحول نحو نظام عالمي جديد؟ وكيف يُمكن تجنب السلطوية الدولية من التزايد في مقابل تقديم الحلول المؤقتة المتعلقة بتعزيز منطق القوة المتجاوزة للسيادة والرغبة الشعبية؟ وهل المؤسسات الدولية بحاجة لإصلاح يعيد الاعتبار للديمقراطية والشرعية الشعبية عالميًا أو إيجاد بدائل أخرى أكثر عدلًا واستدامة؟ وغيرها من الأسئلة.
جاسم بني عرابة كاتب عُماني
