الاحتياطي الغذائي وأزمة الغلاء العالمية

10 مايو 2022
10 مايو 2022

يواجه العالم منذ عدة أشهر ارتفاعاً في أسعار كثير من السلع و المنتجات، وذلك لعدة أسباب منها جائحة كوفيد-١٩. لكن ذلك الوضع زاد سوءً في الأسابيع الأخيرة بسبب الحرب الدائرة حاليا في أوكرانيا، التي أدت إلى ارتفاع كبير في أسعار الطاقة وإلى اضطراب فيما يسمى سلاسل التوريد وانقطاع أو انخفاض صادرات أوكرانيا وروسيا من بعض المنتجات الزراعية والمستلزمات اللازمة للإنتاج الزراعي، الأمر الذي أدى بدوره إلى ارتفاع ملحوظ ومتزايد في أسعار عدد من السلع الغذائية الأساسية. وقد تحدث بعض الخبراء والسياسة في عدد من الدول والمنظمات الدولية المتخصصة عن خطورة هذا الوضع وأهمية الإسراع بمعالجته، لما لارتفاع أسعار المواد الغذائية من آثار اجتماعية وسياسية ضارة بالسلم الاجتماعي والاستقرار السياسي الداخلي للدول.

عمان واحدة من الدول في المنطقة التي تعتمد في سد معظم احتياجاتها من الأغذية على الاستيراد من الخارج، وذلك لأسباب موضوعية تتعلق بالمناخ والسكان والاقتصاد. ومع أن التجارة في عمان كانت على مر العصور من الأنشطة التي يقتصر القيام بها على الأفراد أو الشركات الخاصة، إلا أن تطور أجهزة الدولة وتوسع مسؤولياتها الاجتماعية والاقتصادية حتّم على الحكومة القيام بدور أكبر لسد الاحتياجات المتزايدة من السلع الغذائية الأساسية عن طريق الاستيراد من الخارج. لذلك تم في ثمانينات القرن الماضي إنشاء جهاز حكومي متخصص، تحت مسمى "الهيئة العامة للمخازن والاحتياطي الغذائي". وقد أنيط بتلك الهيئة مسؤولية توفير مجموعة من السلع الغذائية الأساسية، وذلك لكبح الارتفاع في أسعارها في البلاد. وفور تأسيسها، قامت الهيئة بالتعاقد مع منتجين ومصدرين للمواد الغذائية الأساسية في بعض الدول لشراء الكميات اللازمة منها للاحتياطي، كما بادرت إلى بناء مخازن لتلك السلع في عدد من الولايات العمانية. ويتم زيادة الكميات المطروحة من تلك السلع في السوق المحلي عند حدوث ارتفاع ملحوظ في أسعارها بسبب التوترات السياسية الدولية أو بسبب العوامل المناخية كالمحْل أو الفيضانات في البلدان المنتجة لها. ويتم تجديد المخزون من سلع الاحتياطي الغذائي بطرح كميات منه في السوق من خلال تجار التجزئة، الأمر الذي ساعد على استقرار أسعار تلك السلع في الظروف العادية، إلى جانب توفير كميات كافية منها بأسعار مدعومة من الحكومة في ظروف الأزمات العالمية. وأهم السلع التي أنيط بالهيئة مسؤولية توفيرها، الأرز وزيت الطعام والعدس والسكر والشاي. وإلى جانب قيام الهيئة ببناء احتياطيات كافية من تلك السلع، طلبت الحكومة من شركات المطاحن العاملة بالبلاد تكوين احتياطي من القمح والطحين يكفي لمواجهة أي نقص فيها وتلبية الطلب على الاستهلاك منها لمدة تصل إلى عدة أشهر. وفي مقابل ذلك قدمت الحكومة على مدى سنوات دعما ماليا مباشرا لشركات المطاحن من أجل التخفيف على المستهلكين من ارتفاع أسعار القمح في الأسواق العالمية. وشمل الدعم كذلك أسعار الأعلاف التي تنتجها المطاحن، وذلك من أجل التخفيف على مربي المواشي والدواجن بما يساعد على خفض تكاليف الإنتاج المحلي من اللحوم. ومع أنه قد توجد لدى البعض ملاحظات حول تكاليف إدارة الهيئة المذكورة ونوعية السلع التي استوردتها في بعض الفترات، إلا أنه من الإنصاف القول إن الهيئة قامت في أكثر من ظرف طارئ بدور مهم، ووفرت السلع الأساسية التي تحتاجها البلاد، أو استوردت بدائل مناسبة لها، وهو ما ضمن بقاء الأسعار في حدود معقولة وضمن الطاقات الشرائية لأكثرية المستهلكين. بل إن دور الهيئة تجاوز الإطار المحلي، فقامت الحكومة بتقديم مساعدات غذائية إلى بعض الدول التي تعرضت لحالات طارئة، وذلك بالسحب من مخازن الهيئة.

وفي إطار السعي لترشيق وإصلاح الجهاز الإداري للدولة وتحسين أداء المؤسسات الحكومية، تم قبل حوالي سنتين إلغاء عدد من الهيئات العامة، ومنها الهيئة العامة للمخازن والاحتياطي الغذائي، وتم تحويل مهامها واختصاصاتها وأصولها إلى وزارة الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه. ولا شك أن لتلك الخطوة وجاهتها عند النظر إليها من زاوية أن مهمة وهدف الجهة المشرفة والمنظمة للقطاع الزراعي والسمكي يجب أن تكون توجيه الجهود والقدرات لزيادة إنتاج ما يمكن إنتاجه محليا، من أجل سد احتياجات البلاد من المواد الغذائية. وقد تجسدت تلك الرؤية في إنشاء مديرية للأمن الغذائي ضمن الهيكل التنظيمي لوزارة الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه. لكن المؤكد أن الوضع المناخي والسكاني والاقتصادي لا يسمح لبلد مثل عمان أن توفر عن طريق الإنتاج المحلي إلا جزءً يسيرا من حاجتها من المواد الغذائية الأساسية. فالأرز على سبيل المثال هو المادة الغذائية الرئيسة لغالبية السكان في عمان، سواء من المواطنين أو من غيرهم، وهي سلعة لا يمكن إنتاجها محليا لأسباب موضوعية معروفة. كما أن الإنتاج المحلي من سلع القمح والعدس والسكر والزيوت محدود جدا. ومهما تكن الجهود التي ستبذل لزيادة الإنتاج منها فإنه لن يسدّ إلا جانباً يسيرا من مجموع الاستهلاك المحلي. لذلك لا بد من توفير تلك المواد عن طريق الاستيراد من الخارج. وكما هو معلوم أن الاستيراد هو من الأنشطة التي تقع في إطار قطاع التجارة وليس قطاع الزراعة. ومع أن وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار، وكذلك هيئة حماية المستهلك تقومان عبر وسائل الإعلام بين فترة وأخرى بطمأنة المواطنين على توفر ما يكفي من المواد الغذائية في الأسواق، وتحذران التجار من رفع أسعارها، إلا أن الظروف التي يمر بها العالم في الوقت الحاضر تتطلب أكثر من طمأنة المواطنين وتحذير التجار.

من الواضح أن سد احتياجات السوق من المواد الغذائية الأساسية، سواء بتوفير كميات كافية منها أو بالحد من ارتفاع أسعارها، يقع تحت مسؤولية ثلاث جهات حكومية، هي وزارة الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه، و وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار، وهيئة حماية المستهلك. وبالإضافة إلى هذه الجهات الحكومية الثلاثة، يقع على القطاع الخاص جانب من عبء توفير كميات كافية من تلك السلع بصورة فعلية في مخازنه ومتاجره. لكن المعروف أن القطاع الخاص ليس لديه الحِس الكافي ولا الرغبة الدائمة في الدخول في مخاطر عالية قد تكلفه مبالغ مالية تقلل من هامش أرباحه، أو تؤدي به إلى خسائر، الأمر الذي يوجب على الحكومة الاستمرار في دورها لبناء وإدارة احتياطيات كافية من السلع الغذائية الأساسية، وضمان عدم حدوث ارتفاع كبير في أسعارها في الأسواق المحلية عند حدوث أزمات عالمية سواء كانت أزمات متوقعة أو مفاجئة.

بعبارة أخرى نرى أن الاحتياطي الغذائي يعتمد لأسباب موضوعية على ما يتم توفيره بالاستيراد من الخارج. والاستيراد من أنشطة قطاع التجارة، الذي يتبع من حيث الإشراف والتنظيم لوزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار. وحيث أن الارتفاع في أسعار السلع الغذائية أصبح واقعاً ملموسا على مستوى العالم وليس مجرد توقع متشائم، فإنه لا بد ّمن إعادة ترتيب شؤون الاحتياطي الغذائي من حيث حجمه وإدارته والجهة المعنية به، بما يضمن موثوقية أكبر من وجود احتياطيات كافية من السلع الأساسية، واستقرار أسعارها في حدود القدرة الشرائية لذوي الدخول المتوسطة والمنخفضة في المجتمع.

• عبدالملك بن عبدالله الهِنائي باحث في الاقتصاد السياسي و قضايا التنمية