الاحتفاء بالعربيّة وغياب الراوي

17 ديسمبر 2023
17 ديسمبر 2023

في خضم الصراعات الدولية تاريخيا عبر مراحل مختلفة من عمر هذه الصراعات زمانيا ومكانيا تتشابك المصالح وتتداخل الموضوعات لتبقى اللغة عاملا مؤثرا مرتبطا بمختلف أشكال الصراع، وألوان المنافسة، بل حتى التحالفات والتوافقات الكبرى، كيف لا واللغة هي وعاء الخطاب وأداته ولسانه الناطق بحيثياته وتفاصيله ودقائقه عبر قدرتها على تمثيل الناطقين بها قوة وهشاشة، حضورا وغيابا، أو حتى تغييبا مقصودا وإقصاء متعمدا؟ ولكل منطلق من منطلقات القوى وأطرافها ومحاورها خطاب لا يمكن تقديمه أو التعبير عنه بغير اللغة التي تُحمِّلها السُلطة رسائلها المتضمنة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا عاما.

نعايش اليوم هذا الارتباط الوثيق بين اللغة العربية والناطقين بها والساعين لتعلمها في كل مكان عبر طوفان سرديات الخطاب السياسي بين الاحتلال الإسرائيلي وحلفائه من جهة، وفلسطين والمنتصرين لها قضية إنسانية عادلة من جهة أخرى، نستشعر طاقة اللغة بمستوياتها المتعددة حينما نفاجأ بالحرص على تقديم مرويات العدوان الإسرائيلي باللغة العربية (نتيجة لسنوات من الإعداد) بعد أن بقي عقودا لا يأبه لغير اللغة العبرية موجهة إلى الإسرائيليين خصوصا ولليهود عموما في محاولة جاهدة لتوثيق رواية المظلمة اليهودية؛ التي تبرر- من وجهة نظرهم- تعديهم على أرض فلسطين باستيطان جائر يعتمد سياستي التهجير والتجويع لسكان الأرض الأصليين من مختلف الديانات التي تعايشت بسلام عبر حقب متعددة، وفي مرحلة لاحقة العمل على إدخال هذه المرويات السردية إلى اللغة الإنجليزية سعيا للتأثير في جموع الشعوب الغربية الناطقة باللغة الإنجليزية، ثم اعتمادهم العربية بعد ذلك موجهة للشعوب العربية في محاولة لزعزعة ثوابت اليقين العربي حول قضية فلسطين، وتجريم الاحتلال القهري للأرض وسياسة الفصل العنصري المسكوت عنها إقليميا ودوليا، وتفكيك خطاب الوحدة العربية والإسلامية واستبداله بخطاب المصالح الفردية والمنافع الاقتصادية بعيدا عن القيم المرتبطة بالأرض والمقدسات وواجب الدفاع عنهما.

ثم تأتي المرويات الشعبية العربية المعاصرة والتاريخية مقدمة باللغة الإنجليزية لجمهور الشعوب الغربية والشرقية، ومعها السرديات العربية معززة بالتأثير الحي سمعيا وبصريا مما أسهم في سرعة وصول هذه المرويات باللغتين، فضلا عن تحفيز الفضول الشعبي العالمي لتعلم اللغة العربية سواء في بعض تراكيبها التي كانت ترد عبر قصص من هذه المرويات المرتبطة بحرب دولية ممنهجة على شعب عربي أعزل في مدينة واحدة، هذه المواد (السمعية البصرية العربية) أسهمت في تشكيل جبهة دعم شعبية مناصرة لحق الفلسطينيين في أرضهم مُناهضةً ومُفنِّدة كل الادعاءات الإسرائيلية، لاسيما والعالم يشهد قوة هذه المرويات العربية عبر سعي الاحتلال لتقييدها والتخلص منها في تصفية وقتل الإعلاميين الذين نجحوا في نقل الواقع للعالم مضحين بأرواحهم في سبيل نقل ونشر الحقيقة مجردة، لما تلمسه الاحتلال من أثرها في استثارة الرأي العالمي ضد سياستي الاحتلال والتهجير، وجدنا المؤثرين اجتماعيا من العامة، أو الإعلاميين الغربيين، أو حتى الأكاديميين يسعون لتفكيك الخطابين العبري والعربي من جديد، مبادرة لتعلم العربية سواء بدافع البغض أو الحب وفقا لوجهة النظر المتبناة من قبل المتعلم.

جُمل عربية وردت في هذه المرويات الشعبية متصدرة قوائم وسائل التواصل الاجتماعي مثل «الحمد لله» المطمئنة التي يستغربها المتلقي الغربي في سياق الفقد والحزن والغضب، و«روح الروح» الهادئة الوادعة في وداع طفلة شهيدة، وغيرها من العبارات العربية التي نشّطت محركات البحث عن معانيها وسياقاتها وصولا لإدراك قوة سكان غزة وإيمانهم الراسخ بقضيتهم، وبحقهم في أرضهم وفي حريتهم.

ومع الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية هذا العام وتخصيص موضوع الاحتفال ليكون «العربية: لغة الشعر والفنون» فإن الجماهير العربية تتلمس فجوة الخطاب الشعري العربي خلال هذا الواقع المعاش؛ المعقد التركيب، المفتوح على مصادر وعوالم متعددة المشارب، تغذيها آلة الإعلام غير التقليدي بمنافذها التواصلية الاجتماعية، هذه المنافذ التي ينبغي أن تكون ممكنات مضاعفة لوصول القصيدة العربية لسانا لجماهيرها المتهالكة اقتصاديا، المتعبة اجتماعيا، المشتتة فكريا، المشتاقة جماليات الشعر التي كانت متنفسا للشباب العربي في مراحل وأزمات تاريخية سابقة أقل قسوة وأخف أثرا مما نعيش اليوم، لكن الشاعر العربي كذلك مشتت بين يومياته المستنزفة طاقاته وأفكاره المستنزفة قريحته وخياله، وكأنّا به مع كل أولئك المترقبين عربة الشعر ومرايا القصيدة.

نحتفي والعالم باليوم العالمي للغة العربية متلهفين لخطاب العربية الأجمل، مرآة لهموم الشارع العربي وآماله، وانعكاسا لأمة تواقة لقوة متحققة تبنى على وحدة اقتصادية وأخرى سياسية تمضي بشباب هذه الأمة لواقع مأمول وغد أفضل، متمنين تجاوز احتفالاتنا مجرد البهرجة والتنظير إلى تمثل اعتزازنا بلغتنا ممارسات يومية، وتوظيفا عمليا يعنى بتفاصيلها، فلا نعبر إلى مسرح يحتفل بها في مؤسسة حكومية أو مؤسسة خاصة في ممرات وساحات ملأى بلوحات مثلومة اللغة، ولافتات مكلومة الهوية، مؤشرات لا تعكس حتى السلامة اللغوية فضلا عن الفخر بالأفضل من بدائل إبداع العربية، أن لا ندعي الاحتفال والفخر مخالفين حتى القانون الأساسي للدولة في مراسلاتنا الرسمية المقتصرة على اللغة الإنجليزية، أو تلك التي تقدم الإنجليزية عليها في موطنها وبين أهلها.

احتفالنا باليوم العالمي للغة العربية هو بحثنا المخلص الجاد عن أفضل السبل لتعزيزها وتقديرها فلا نصل احتفال العام القادم إلا مع الفخر بإنجاز لا يجعلها غريبة بين أهلها، مهمشة في أرضها، وهي التي منحتنا والعالم فضاءات القصيدة وسماوات التخييل.

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية