الاتفاق السعودي الإيراني .. والحاجة إلى جهد متواصل

20 مارس 2023
20 مارس 2023

مما لا شك فيه أن الترحيب العربي والإسلامي بالاتفاق السعودي الإيراني الذي تم التوصل إليه يوم الجمعة العاشر من مارس الجاري، كان واضحا وواسع النطاق أيضا، وبينما يعبر ذلك عن توق جماهيري كبير لتجاوز الخلافات ومسببات الحروب والمواجهات العربية والإسلامية التي أثخنت جسد المنطقة على مدى العقود الأخيرة، فإنه ليس مصادفة في الوقت نفسه أن تشعر إسرائيل بأنها أكثر المتضررين، أما الولايات المتحدة فقد سيطرت على غضبها في ردود فعلها الأولى على إعلان الاتفاق، حتى تحدد كيفية التعامل مع هذه الخطوة التي لا تريد لها النجاح بالتأكيد، خاصة في الظروف الراهنة والمحتملة في المنطقة. وإذا كانت السياسة والعلاقات بين الدول لا تدار بالرغبات والتمنيات، ولكنها تقوم وتدار على أساس المصالح التي تراها وتقدرها الأطراف المعنية في وقت وظروف محددة، فإنه ليس من الصحيح ولا بالمنطقي تصور أن تنقلب الأمور والأوضاع والعلاقات بين دولتين أو أكثر سريعا وبشكل تام لسبب بسيط هو أن حلقات العلاقات والمصالح متشابكة ومتداخلة، هذا فضلا عن أنه من المهم والضروري وضع مواقف واحتمالات ردود فعل الأطراف الأخرى -بادية أو مستترة- في الاعتبار. وفي ضوء ذلك فإنه يمكن الإشارة إلى عدد من الجوانب أبرزها ما يلي: أولا، إنه من غير الصحيح عند النظر إلى تطور ما في العلاقات بين دولتين أو أكثر تجاهل ماضي تلك العلاقات أو إسقاطه تماما لحساب تطورات أحدث يمكن تعديلها أو التراجع عنها بسهولة أكبر، ومن هذا المنطلق فإن العلاقات بين واشنطن وطهران والرياض، وبين طهران والرياض، وبين طهران وتل أبيب هي أقوى وأكثر عمقا في ماضيها من حاضرها، والأكثر من ذلك أن حاضر تلك العلاقات في كل مسار من مساراتها في الأعوام الأخيرة يعاني في الواقع من مشكلات وخبرات سلبية، سياسية واستراتيجية واقتصادية، تدفع كل هذه الأطراف إلى البحث عن مخارج وحلول لتخفيف التوترات وحل المشكلات بما يحفظ مصالح الأطراف، ويحافظ على ماء وجهها أيضا، ويضع نهاية للاستنزاف الاقتصادي والمالي الذي يؤثر عليها اقتصاديا واجتماعيا على نحو ملموس، بغض النظر عن أي ادعاءات أو دعايات لتغطية المواقف أو تسويقها على هذا الجانب أو ذاك. والمؤكد أن مجمل الظروف والتطورات الإقليمية والدولية الراهنة في الخليج والشرق الأوسط وأوكرانيا وفي العلاقات الروسية الأمريكية والأمريكية الصينية لا تنفصل عن ذلك بل تدخل كمؤثرات بدرجة أو بأخرى.

وإذا كانت السمة التي ميزت العقد الأخير هي الميل إلى مد السيطرة وممارسة النفوذ في البيئة الإقليمية في الخليج والشرق الأوسط، وهو ما وصل إلى التباهي الإعلامي بذلك وإلى حد المواجهات المسلحة في اليمن الشقيق ومحاولة التلاعب بمقدرات بعض دول المنطقة وممارسة الضغوط السافرة والمباشرة عليها سياسيا واقتصاديا، فإن النقطة التي تعد ركيزة للاتفاق السعودي الإيراني هي إقراره واستناده إلى مبدأ الاحترام المتبادل للسيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وإنهاء المواجهات المسلحة وحل الخلافات بالحوار والطرق السلمية، وهذا المبدأ تحديدا هو من المبادئ الأساسية للأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي ومجلس التعاون الخليجي، وهو بمثابة ركيزة لبناء الثقة المتبادلة وبدء صفحة جديدة في العلاقات بين الجانبين. وإذا كان الاتفاق قد حدد مهلة شهرين كحد أقصى لإعادة العلاقات الدبلوماسية وإعادة فتح السفارات ومقار البعثات الدبلوماسية لكلا الطرفين لدى الطرف الآخر -وهي مهلة ليست كبيرة- بحكم قطع العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران منذ عام 2016 وبحكم ما يحتاجه ذلك من إجراءات وتحضيرات، فإن كثيرين في المنطقة وخارجها سيتابعون عن قرب كل ما سيجري بين طهران والرياض خلال الأسابيع القادمة لقراءة ما يدور بين الجانبين وأخذه في الحسبان، خاصة أن هذه الفترة هي الفترة التي ستشهد على الأرجح محاولات مختلفة لعرقلة تنفيذ الاتفاق بشكل أو بآخر، من جانب معارضي الاتفاق والمتضررين منه، وهي محاولات لن تتوقف بالطبع بعد انتهائها.

ثانيا: إنه في الوقت الذي ينتظر فيه أن تشهد الأوضاع في اليمن ولبنان والعراق تحركات أكثر جدية ونشاطا نحو إيجاد مخارج ونقاط التقاء لوقف الحرب في اليمن في إطار المبادئ المتفق عليها وبما يحافظ على وحدة اليمن وسيادته، وأن يشهد لبنان حل أزمة انتخابات الرئيس اللبناني وتخفيف الأزمة الاقتصادية، فإن تثمين البيان السعودي الإيراني لدور وجهود سلطنة عمان والعراق والصين يحمل في جانب منه على الأقل إدراكا وقناعة أعمق بقيمة المبادئ التي طالما استند إليها الموقف العماني الساعي لوقف القتال في اليمن والتوصل إلى حل سياسي وفق المبادئ المتفق عليها خليجيا ويمنيا ودوليا، ولوقف نزيف الدم والاقتصاد بعد مواجهات أثرت سلبا على اليمن بشكل حاد في الحاضر والمستقبل. ومع الوضع في الاعتبار أن علاقات إيران مع دول مجلس التعاون التي تأثرت بعد الأزمة السعودية الإيرانية عام 2016 سوف تتحسن، كما قد تتحسن العلاقات المصرية الإيرانية المتأثرة بخلافات عدة منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979 واغتيال الرئيس السادات عام 1981، فإنه من المرجح أن مناخا من الهدوء والميل إلى التوافق وتحسين العلاقات سيخيم على المنطقة، وظهرت بوادر ذلك في زيارة وزير خارجية تركيا لمصر السبت الماضي والاتفاق على إعادة العلاقات وتحسينها بينهما في الفترة القادمة.

وفي حين يعزز الاتفاق السعودي الإيراني المكانة الإقليمية لكل من السعودية وإيران، فإنه يعزز في الوقت ذاته مكانة ونفوذ الصين خليجيا وعربيا ودوليا ويبرز دورها في حل الخلافات الإقليمية سلميا. وتجدر الإشارة إلى أن ذلك لم يبدأ الآن، لأن الصين بدأت منذ تولي الرئيس شين جين بنج رئاستها في تعزيز نفوذها ومكانتها الدولية في إفريقيا والخليج والشرق الأوسط ومحيطها الإقليمي بالطبع وتربطها اتفاقيات تعاون استراتيجي في مختلف المجالات مع سلطنة عمان على سبيل المثال منذ عدة سنوات. وتمثل استراتيجية «الحزام والطريق» ملمحا وعنصرا أساسيا في تعزيز مكانتها الدولية فضلا عن أنها تسعى للتوسط لحل مشكلة الحرب في أوكرانيا سلميا وجاء الاتفاق السعودي الإيراني برعاية بكين كخطوة أخرى في هذا المجال. والمؤكد انه برغم أن واشنطن تتعامل مع الصين الآن كمنافس تزداد قوته وخطورته ومزاحمته لها إقليميا ودوليا إلا أن بكين تدرك أنها تملك الوقت الذي تحتاجه للوصول إلى أهدافها ولا تسعى للصدام مع واشنطن إلا إذا اضطرت لذلك.

ثالثا: إنه إذا كانت إسرائيل تستشعر مخاطر الاتفاق السعودي الإيراني خاصة فيما يتصل باحتواء آمالها في توسيع اتفاقيات إبراهام وفي عرقلة مخططاتها ضد إيران، فإنها لن تتوانى عن القيام بكل ما تستطيع لعرقلة الاتفاق بين الرياض وطهران والتعاون في ذلك مع واشنطن. وإذا كانت إسرائيل يمكن أن تمارس ضغوطا على إيران بشكل أو بآخر، فإن واشنطن ستتريث كثيرا وستدرس خطواتها جيدا بالنسبة للمملكة العربية السعودية، ليس فقط بسبب حجم المصالح مع السعودية، وما يمكن أن يؤدي إليه التصعيد من دفع الرياض في مسارات ليست في صالح واشنطن، ولكن أيضا لأن الرياض لن تدفع نحو تأزيم العلاقات مع واشنطن خاصة في هذه المرحلة. ومع أهمية زيارة وزير الدفاع الأمريكي لإسرائيل هذه الأيام وهي مخصصة لبحث الوضع حول إيران، إلا أنه من غير المتوقع، بل من غير الممكن أن تقوم واشنطن بدعم أو الترحيب بخيالات إسرائيل أو بعض قادتها لضرب المواقع النووية الإيرانية، وهو ما عارضته واشنطن وتعارضه الآن أيضا، فبرغم كل شيء إلا أنها -أي واشنطن- تسعى للحفاظ على مصالحها الراهنة وعلى احتمالات تطويرها في المستقبل أيضا مع كل دول الخليج والشرق الأوسط بغض النظر عما يجري على السطح.

وفي ضوء ذلك فإن الاتفاق السعودي الإيراني المهم لتهدئة الأوضاع في المنطقة ولحل بعض مشكلاتها أيضا يستحقق العمل لإنجاحه والحفاظ عليه وتطويره، وكل جهد في هذا المجال يصب في صالح دول وشعوب المنطقة.