الابتكار المؤسسي وبيئة العمل

15 مايو 2023
15 مايو 2023

قبل عدة أيام من كتابة هذا المقال كنت في رحلة معرفية شائقة بدأت بالتعرف على مفهوم الابتكار المؤسسي وكيفية تنمية الابتكار في المؤسسات بمختلف أنواعها مرورا بتقبّل الإنسان للتغيير في بيئة العمل، وصولا إلى اقتناعه بضرورة أن يكون عضوا فاعلا يتطوّر سريعا باستمرار وبالتالي الابتكار.

وخلال تلك الرحلة المعرفية اقتنعت أن للإنسان قدرة على التأقلم مع المتغيرات وإن كانت الأوضاع غير مثالية، إذ يحكى أن مجلس النوّاب البريطاني تعرّض لدمار جزء كبير منه في الحرب العالمية، وكان قبل تدميره محل انتقاد كبير من النواب؛ إذ كان البرلمانيون يسعون إلى إعادة تصميمه قبل الحرب، لكن نظرًا للتكلفة المرتفعة التي لم تُقر لإعادة التصميم، أُخّر العمل عليه إلى أجل غير مسمى حتى قامت الحرب التي أدت إلى تدمير جزء كبير من البرلمان، وأصبحت الحاجة ماسة لإعادة البناء عندها عرض تشرشل على البرلمان إعادة بناء الجزء الذي أصيب بالدمار من البرلمان على النمط الذي كان يطالب به البرلمانيون سابقا. إلا أن المفاجأة أن الأعضاء ارتأوا الإبقاء على التصميم القديم وتراجعوا عن رغبتهم السابقة عندها علّق تشرشل في خطاب له: «في البداية نحن من يشكل المباني، حتى إذا قامت شكلتنا هي»؛ فالابتكار كما هو معلوم لا بد أن ينتج عنه تغيير سواء في المؤسسة أو المجتمع سواء تغيير في أسلوب العمل أو في منهجيته أو في أدواته فهو الذي يبحث عن حلول للمشكلات وأساليب التعامل معها شريطة وجود رغبة حقيقية وجادة للتغيير والتعامل مع المشكلات والخروج من نمط اقتراح الحلول التقليدية والمألوفة إلى نمط الحلول المبتكرة التي تقترح حلولا غير مألوفة أو ما تسمّى بأفكار خارج الصندوق. ومع تردد البعض تغيير نمط العمل المؤسسي تفاديا لأي ارتدادات سلبية على بيئة العمل أو عدم تقبل الموظفين للنمط الجديد في العمل إلا أن هناك كثيرا من النماذج التي اطلعنا عليها حديثا أسهمت في رفع إنتاجية الموظفين وردمت الهوة بين الموظفين في مختلف درجات السلم الوظيفي وعالجت المشكلات التي تواجه الموظفين في بيئة العمل مثل ضعف التواصل الداخلي بين الموظفين وتمسّك البعض منهم بقناعات غير صحيحة.

إن واقع بيئة العمل وما يمر به الموظف من ضغوطات في أداء مهامه أو ما يواجهه من مواقف في محيطه الاجتماعي يتطلب وجود نماذج ابتكارية وأدوات فاعلة تسهم في تشجيع الموظفين على أداء مهامهم الوظيفية على أكمل وجه والتزامهم بأوقات الدوام الرسمي، وبالتالي الاستقرار الوظيفي وكفاءة الإنتاجية وهنا ينبغي على الموظفين أن يكونوا على استعداد لتقبل التغيير الذي ينشده صانعو القرار لتحسين بيئة العمل عبر اقتراح الأفكار ووضع المقترحات المناسبة لإيجاد بيئة عمل صحية بعيدة عن الخلافات البينية أو المنغصات في بيئة العمل، وإن كان التغيير ينتابه بعض التأرجح بين شعور الخوف من عدم الانسجام مع التغيير الحاصل أو الأمل بتحسّن بيئة العمل ورفع مستوى الإنتاجية عبر رفع أداء الموظفين واستكشاف مهاراتهم وقدراتهم المعرفية.

إن الانتقال من بيئة عمل لأخرى مثالية -كما يظن البعض- ليس مقياسا منطقيا لبيئة العمل الحالية، بل هناك دوافع أخرى ينشدها البعض مثل الحصول على منافع مادية أو وجود شاغر وظيفي للحصول على وظيفة إشرافية يطمح إليها الموظف، وهنا ينبغي على الموظف قبل أن يبدي امتعاضه من بيئة العمل وتحدياتها عليه أن يبتكر حلولا لتلك التحديات، فتغيير بيئة العمل بهدف الهروب من مواجهة ما يعانيه الموظف في بيئة العمل الحالية هو مضيعة وقت ليس إلا ما لم يبحث عن أسباب الخلل ويضع حلولا ابتكارية تسهم في معالجة الخلل، وهنا أقترح أن يتجرد الموظف من تردده من شعور الخوف بعدم الإقدام على طرح الأفكار الابتكارية لتحسين بيئة العمل لأن الشعور دائما بالخوف والتوجس ربما يصبح مستقبلا جزءا من شخصية الموظف وجزءا من ثقافة المؤسسة إذا تسلل شعور الخوف والتوجس من التغيير لبقية الموظفين، ووفقا لما ذكرناه أعلاه فإن الابتكار المؤسسي مرتبط بالإبداع الإداري في المؤسسة الذي يعرّف على أنه «كل فكرة أو إجراء أو منتج يقدمه الموظفون صغارهم وكبارهم يتسم بالتجديد والإضافة، ويعود بمنافع إدارية أو اقتصادية أو اجتماعية على المؤسسة أو الأفراد أو المجتمع»، ولتحفيز المؤسسات الحكومية على الابتكار المؤسسي وإيجاد بيئة عمل تتميز بالإبداع والتميّز وإنجاز الأعمال والمهام بشكل صحيح ينبغي أن نعزز التواصل الداخلي أولا ومن ثم نبدأ في البحث عن معالجات للتحديات التي تواجه الموظفين.

بصراحة هناك عدد من الأفكار التي أحسبها جيدة لتشجيع الموظفين على الابتكار في المؤسسات منها تقليل الهوة بين الموظفين والمسؤول المباشر عبر تنظيم اجتماعات دورية لإطلاع الطرفين على تحديات بيئة العمل واقتراح الحلول الفاعلة للتعامل معها، والاستماع جيدا للموظف وتقديم المشورة اللازمة للتعامل مع العقبات التي تواجه وتؤثر على إنجاز مهام عمله بإتقان وكفاءة إضافة إلى التواصل المستمر بين الموظف والمسؤول المباشر ليكونوا على اطلاع بما يطرأ من مواقف وأحداث في بيئة العمل.

أخيرا.. يعد الابتكار المؤسسي بوابة للنهوض بالمؤسسة والعمل المؤسسي ولن يتحقق ذلك إلا باقتناع الموظفين بأهمية الابتكار في إيجاد بيئة عمل صحية محفزة للإنتاج وتمتاز بالمرونة في إنجاز الأعمال اليومية وتؤمن بالتغيير الإيجابي المنشود في بيئة العمل.