الإنماء الثقافي والتنمية الاقتصادية

28 مايو 2022
28 مايو 2022

في العام 1982م دعت المنظمة الدولية للتربية والثقافة والعلم (اليونسكو) إلى عقد المؤتمر العالمي للسياسات الثقافية والتنمية المستدامة في مكسيكو، الذي تمخض ـ بحسب الإعلان الختامي للمؤتمر ـ عن المفهوم الشامل للثقافة وعلاقتها بالإنسان والتنمية، وقد كلَّفت الأمم المتحدة في أعقاب هذا المؤتمر اليونسكو بـ (تنفيذ العقد العالمي للتنمية الثقافية 1988ـ 1998، لتعزيز البُعد الثقافي الذي تنطوي عليه التنمية على الصعيدين الوطني والدولي)، الأمر الذي انتهى إلى إنشاء (اللجنة العالمية المعنية بالثقافة والتنمية).

هكذا تم العمل على إيجاد علاقات جديدة بين الثقافة والخطط الإنمائية في دول العالم، بناء على منهجيات إنمائية قائمة على الثقافة ومحورها الإنسان؛ فمنذ مؤتمر اليونسكو الدولي الحكومي للسياسات الثقافية من أجل التنمية الذي دعت إليه اليونسكو في العام 1998 في مدينة ستوكهولم، مرورا بالمؤتمر الدولي الحكومي بشأن (أهمية الثقافة. التمويل والموارد واقتصاد الثقافة في التنمية المستدامة) الذي عقدته اليونسكو بمشاركة البنك الدولي في العام 1999 في فلورنسا في إيطاليا، الذي ركَّز على القيمة الاقتصادية المضافة للثقافة، كما دعا إلى أهمية القيام بتحليل الإحصائيات الثقافية وجمعها بشكل منهجي على مستوى السياسات التنموية، بُغية توفير (المعلومات اللازمة عن اقتصاديات الثقافة على نطاق التنمية)، وصولا إلى اعتماد الإعلان العالمي بشأن التنوع الثقافي في العام 2001 المعني (بصون الثقافة وتعزيزها بجميع أبعادها المتنوعة) وما تلى ذلك من اتفاقيات 2003 (صون التراث الثقافي غير المادي)، واتفاقية 2005 (حماية تنوع أشكال التعبير الثقافي وتعزيزه).

وفي وثيقة (مؤتمر اليونسكو العالمي للسياسات الثقافية والتنمية المستدامة لعام 2022)، الذي تم عقده ما بين (ديسمبر 2021 ـ فبراير 2022)، تقدم اليونسكو بعد خلفيات هذا المؤتمر، والأولويات المتغيرة في العالم سواء بِفعل التذبذبات الاقتصادية أو ما سببته تداعيات جائحة كورونا (كوفيد 19)، إضافة إلى التغير المناخي تحديات التنوُّع البيولوجي، والتي أثَّرت على ممارسات صون التراث الثقافي وحفظه وحمايته، وتنمية الاقتصاد الإبداعي وتطويره. ولعل ما أحدثته جائحة كورونا من آثار على القطاع الثقافي (أماط اللثام عن مواطن الضعف التي تعتري قطاع الثقافة... وأبرزت الدور الحيوي الذي تؤديه الثقافة في تعزيز قدرة المجتمعات على الصمود وفي ضمان رفاهيتها) ـ على حد تعبير اليونسكوـ، الأمر الذي دعا المنظمة إلى عقد اجتماع وزاري عبر الإنترنت شارك فيه ـ حسب الوثيقة ـ (100) وزير ثقافة ونيِّف، وقد شددوا على (الأثر غير المسبوق لهذه الجائحة على القطاع الثقافي، وقاموا بتحديد مجالات العمل ذات الأولوية، ولا سيما قطاع السياحة والأنشطة الثقافية والمتاحف والإنتاج الثقافي وسُبل معيشة الفنانين والمهنيين العاملين في مجال الثقافة).

لقد شدد هذا الاجتماع على (ضرورة تكييف السياسات الثقافية وآليات الدعم العام بما يمكِّن من بناء قطاع ثقافي أكثر قدرة على الصمود والاستدامة)، استناد على ما يُحدثه من أثر في تحقيق النمو الاقتصادي، والتنمية الاجتماعية، ولأن سلطنة عُمان من أوائل الدول التي انضمت إلى عضوية اليونسكو وشاركت بفاعلية في تحقيق الأهداف العالمية للتنمية الثقافية، فإن هذه التنمية إحدى أهم أولوياتها الوطنية التي تأسست ضمن نهج سام قائم على تعزيز الأدوار التي تؤديها الثقافة اجتماعيا واقتصاديا، ويمكن أن نجد ذلك من خلال السياسات الثقافية والدور التمكيني الذي كان له الأثر البالغ في تعزيز التنمية الثقافية خاصة في سبعينيات القرن الماضي إلى اليوم الذي أصبحت فيه الثقافة محورا رئيسا من محاور الخطة الإنمائية؛ حيث لم تبرز الثقافة في خطط التنمية والرؤى المستقبلية لعُمان كما برزت في رؤية عمان 2040، الأمر الذي يعكس الاهتمام الوطني الذي تحظى به، والإيمان بقيمتها الاجتماعية والاقتصادية في تنمية المجتمع، غير أن عُمان ليست بعيدة عن تلك التداعيات العالمية التي طالت الثقافة ونالت من تطورها خاصة خلال الأعوام الثلاثة الماضية، لهذا فإن هذا القطاع يمثِّل أولوية وطنية وعالمية، علينا العمل على دعمها ورفدها بما يعينها على تخطي الأزمة ويمكِّنها من أداء دورها التنموي الطموح.

قدمت وحدة متابعة تنفيذ الرؤية، عرضا في أحد المحافل بيَّنت خلاله مراحل إعداد الرؤية المستقبلية عمان 2040، ومكوناتها من حيث الأولويات والتوجهات الاستراتيجية، وآليات متابعة تنفيذها، والأسس التي تعتمد عليها الوحدة لمتابعة تنفيذ الرؤية، ولعل اللافت في هذا العرض هي تلك المنهجيات التي اعتمدتها الوحدة في متابعة جهود تحقيق الرؤية ودعمها، وهي منهجيات مبنية على أسس علمية قادرة ـ حسب منظورنا ـ على تأسيس منظومة عمل تشاركية مع الوحدات المعنية والتخصصية حتى تكون أهداف الرؤية واقعا ملموسا وليس طموحا مُنتظرا، فقد اعتمدت الوحدة إضافة إلى (المنهجية الرئيسة. تقييم ومتابعة الأولويات)، على (منهجية استشراف المستقبل)، و(منهجية تحسين مؤشرات الرؤية)، و(منهجية البرامج المكثَّفة)، و(منهجية التدخل السريع).

إن هذه المنهجيات تقوم على مسارات واضحة لمتابعة (المستجدات والتطورات على الساحة المحلية والعالمية وإسقاطها على مجالات وأولويات الرؤية، وتقديم التوصيات المناسبة...) ـ حسب ما جاء في العرض ـ، ولهذا سنجد أن لكل منهجية مساراتها التي تستند على الاستقصاء والتحليل والتقييم والتطوير، من أجل التأكد من جاهزية عُمان لمواكبة التغيرات وتحقيق أهدافها. ولعل ما يعنينا هنا ونحن نتحدث عن الثقافة هو تلك الآليات التي تم تطبيقها لدعم الثقافة والإعلام خاصة، إضافة إلى البرامج التي تتبع (منهجية المتابعة المكثَّفة. البرامج الوطنية) التي تُشرف عليها الوحدة.

تأتي الثقافة والإعلام في الرؤية في أولوية (المواطنة والهُوية والتراث والثقافة الوطنية)، والتوجُّه الاستراتيجي (مجتمع معتز بهُويته وثقافته وملتزم بمواطنته)، وهي أولوية تتضمن ثمانية أهداف من بينها هدف واحد للإعلام (إعلام مهني معزِّز للوعي المجتمعي ومساهم في التنمية الاجتماعية والاقتصادية)، وسنجد أن هذا الهدف لا يرتبط في وثيقة الرؤية بأي مؤشر من مؤشرات الأداء، إضافة إلى أن الأهداف الأخرى تنقصها أيضا مجموعة من المؤشرات العالمية على رأسها (مؤشر السلام العالمي)، ولأن وحدة متابعة تنفيذ الرؤية قد اعتمدت على مجموعة من المنهجيات لإعادة قراءة الرؤية وتحليلها لتتناسب مع المتغيرات التنموية الوطنية والعالمية خاصة في الأوضاع الراهنة، فإننا نتطلع إلى ضبط تلك المؤشرات بما يتناسب مع آفاق التنمية الثقافية التي تتطلَّع إليها الدولة، فلا يمكن بلوغ تلك الآفاق، بل لا يمكن قبل ذلك دعم القطاعات ومتابعة أدائها ما لم تكن هناك مؤشرات وطنية وعالمية واضحة.

يكشف لنا العرض الذي قدمته الوحدة تلك الجهود الحثيثة التي تسعى إليها بالتعاون مع الجهات المعنية لإنشاء البرامج الوطنية التي تُعدُّ من الأولويات الوطنية مثل (البرنامج الوطني للاستدامة المالية)، و(البرنامج الوطني للاستثمار وتنمية الصادرات)، و(البرنامج الوطني للتشغيل. تشغيل)، و(البرنامج الوطني للاقتصاد الرقمي)، وهناك البرامج الوطنية (قيد التطوير) مثل (البرنامج الوطني للتنويع الاقتصادي. تنويع)، و(البرنامج التمكيني. إدارة التغيير والتواصل). ولأن هذه البرامج تهدف ـ بحسب الوحدة ـ إلى (تكامل الجهود المبذولة في سبيل تحقيق مستهدفات عاجلة ومشتركة على المستوى الوطني للتعامل مع متطلبات المرحلة)، فإن توجيهها لابد أن يراعي تكامل القطاعات الحيوية في الوطن، لتشمل قطاع الثقافة باعتباره أحد أهم تلك القطاعات المتأثرة بالمتغيرات من ناحية وارتباطه القطاعات التنموية الأخرى من ناحية ثانية.

فبالإقرار بأهمية هذه البرامج الوطنية، نُقرُّ كذلك بأهمية إشراك قطاع الثقافة ضمنها، فقد نصت الرؤية في الهدف الرابع من أهداف أولوية (المواطنة والهُوية والتراث والثقافة الوطنية)، على (استثمار مستدام للتراث والثقافة والفنون، يُسهم في نمو الاقتصاد الوطني)، وهو هدف لا يمكن تحقيقه سوى بإشراك هذا القطاع الحيوي المثري إلى برامج الاستثمار والتنويع الاقتصادي، لتكون له فرصة المساهمة الفاعلة في التنمية الاقتصادية وتحقيق المؤمل منه، ولولا ذلك سيظل هذا الهدف محض أمل لا نراه سوى في توصيات الندوات والمؤتمرات، أو في مبادرات وأنشطة متفرِّقة في أحسن الأحوال، إضافة إلى أهمية دعم التحوُّل الرقمي ومساهمة القطاع في (الاقتصاد الرقمي) الذي يُعد فرصة للانتفاع بمجالات الثقافة.

إن تمكين الثقافة والإعلام وتأسيس منظومة شاملة لدعم هذا القطاع خاصة في ظل المتغيرات الحالية التي يعانيها، والدعوة العالمية إلى إنعاش هذا القطاع وتعزيزه اقتصاديا، سيمكِّن الدولة من الاستفادة من مجالاته المتنوعة، لتحقيق توازن بين دوره الاجتماعي والاقتصادي، الأمر الذي يعني أن اعتبار الثقافة قطاعا تنمويا يجب أن يتأسس على إشراكه في المنظومة الاقتصادية، وبالتالي إما أن يكون واحدا من شركاء البرامج الوطنية الاقتصادية، أو أن يكون له برنامج وطني يتأسس على تلك الممكِّنات المتنوعة التي تميِّزه، وينطلق باعتباره أولوية وطنية ذات أبعاد متعددة ومترابطة.