الإقصاء.. وديناميكيةً التغيير

30 يناير 2022
30 يناير 2022

مهاتما غاندي (ت:1948م).. «الروح العظيم»، حرّر بلاده من الاستعمار البريطاني باتّباع سياسة اللاعنف. إن الهند المعاصرة ما كان لها أن تكون على ما هي عليه اليوم لولا هذا الحكيم الصلب الذي قاد حركة تحرر فريدة في العالم؛ عُرِفت بالعصيان المدني. المقال.. ينفذ بهذا الروح الملهِم إلى الحديث عن ديناميكية التغيير في الحياة، أو بالأحرى.. إحدى الطرق التي ابتدعها الإنسان للانتقال من مرحلة مُدْبِرة إلى مرحلة يستشرفها لمستقبله، في حال استعصاء الأنظمة عن إدراك الواقع، أو خوفها من التحوّل، أو عدم قدرتها عليه.

الأنظمة.. بغض النظر عن فعلها؛ صواباً أم خطأً، يأتي عليها حين من الدهر تصبح غير قادرة على إدارة شأن الحياة، ويلزمها أن تتغير، وتستقبل المرحلة الآتية برؤى جديدة تُبصِر الواقع وتقدّر مآلاته، وبقدرات متمكنة على مواكبة احتياجات المجتمع وتطلعاته. لكن التاريخ يقول إن الأنظمة غالباً غير مستعدة للتحوّل، فهي تصرّ على بقائها حتى آخر نَفَسِها. ولكي تحافظ على وجودها تفرض نَفْسَها بالقوة، وتعمل وسعها في القضاء على مَن تراه منافساً لها. هذا ما حصل للسياسات الاستعمارية، وهو ما حصل في الهند، فقد كان الإنجليز يفرضون بقاءهم فيها فرضاً، ولم يشعروا بالتحولات العالمية، أو أنهم شعروا بها إلا أنهم استمرأوا نظامهم الاستعماري، فلجأوا إلى محاربة كل بادرة سئمت وجودهم في شبه القارة الهندية. لم يهتموا بفحص منظومتهم الاستعمارية ولا تفهّم رغبات الشعوب وتطلعاتها، لوجود قيادات في إدارة منظومتهم لا يهمها أن تفقد الإمبراطورية -التي لا تغرب عنها الشمس- النفوذ العالمي طالما تحقق مصالحها الآنية. إن رفض هذه القيادات خروج الإمبراطورية العجوز من الهند وغيرها بما يحفظ كرامة الإنسان؛ أهدر كرامة بريطانيا قبل غيرها.

وهكذا.. تظل مكونات الأنظمة القديمة متشبثة بما هي عليه، ممسكة بأزِمَّة الأمور حتى تنهار، فيحدث التغيير، ويحدث -غالباً- باتجاه «أنظمة راديكالية» لا ترحب بوجود عناصر الأنظمة السابقة. بهذه الطريقة.. تدير الحياة تحولاتها في الاجتماع البشري، فلا شيء يوقف حركتها عن مقصدها، ولعل إصرار الأنظمة على جمودها هو ما يدفع الشعوب بحماس أكبر نحو التحوّل، وبهذا يكون الإقصاء مِن أقوى أدوات التغيير.

فالقرشيون؛ ملأ مكة.. رفضوا ترك وثنيتهم البالية واعتناق دين التوحيد، الذي أصبح الناس ينتظرونه انتظارَ الأرض المجدبة لماء السماء، وما أن بُعث النبي الأكرم بالإسلام حتى انبروا له بأسنة العداء، وتفننوا في أساليب إقصائه، ما بين مكذّب له في دعواه، وساخر من دينه، ومعذّب لأتباعه، حتى ضاقت مكة على المؤمنين بما رحبت، فاضطر أن يهاجر بعضهم إلى الحبشة، ثم هاجر النبي وصحبه إلى المدينة، ومنها بدأ تقهقر قوة النظام الوثني من جزيرة العرب، وما قضاه النبي في المدينة أقل مما قضاه في مكة محاولاً إصلاح معتقدات أهلها الآفلة. لقد دخل الناس في الدين الجديد أفواجاً، بعد معارك طاحنة واجهت بها قيادات النظام القديم النظام الجديد. ثم انتشر الإسلام في الآفاق في مدة قياسية، متناسبةً مع الإقصاء العنيف الذي لحق بالرادة الأوائل. والمتأمل.. يرى في ذلك حكمة؛ لكي يصلب عود الدين الوليد، وتشتد سواعد متبعيه، فيتمكنوا من ترسيخه، ويُطوى الدين القديم إلى غير رجعة، ويصبح عبرة للمعتبرين.

ومِن ديناميكية الإقصاء.. أن مفعوله يسري ولو ظن سدنته بأنهم لزّوا خصمهم في مضائق الظلمات، أو أخرجوهم من أقطار الأرض، فلنا عبرة في النبوات؛ التي أشرق نورها رغم عتو الملأ من حولها. وإن كان في هذا التأريخ السحيق عبرة يستغرب المرء وقوعها؛ فإن أحداث عصرنا تبدد ذلك الاستغراب، فنظام الفصل العنصري «الأبارتايد» في جنوب إفريقيا وقف ضد مطالب الشعب الجنوب إفريقي، واتخذ منهم خَوَلاً، وعزل مناطقهم، وتعامل معهم بالقوة الخشنة، ولم يشعر بالتحول العالمي في سجّل حقوق الإنسان، بل عتا واستكبر فرمى بالمناضلين في السجون، وقضى نيلسون مانديلا(ت:2013م) قائد حركة التحرر 28 عاماً متنقلاً بين سجون البلاد، لكن هذا الإقصاء ذاته كان وقود التحرر، فنال الشعب حريته، وانتهى إلى الأبد أحد الأنظمة العنصرية في العالم.

ولا عبرة بالزمن في تحقق مفعول الإقصاء.. فقد يكون سنوات معدودة كما في الدعوة المحمدية، أو يستغرق عدة عقود كنظام الفصل العنصري، وقد يصل إلى آلاف السنين، فاليهود.. عاشوا مشتتين حوالي ثلاثة آلاف عام، تعرضوا خلالها للنبذ والتشريد، إلا أنه بسبب إصرارهم على تحقيق هدفهم، وصبرهم المنقطع النظير، كانت ديناميكية الإقصاء تعمل لصالحهم؛ وإن ببطء. ولكن.. (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ)، فما أسرع نسيانه، وكم يعمي عرش السلطة ويصم، فها هم يمارسون الاضطهاد بأبشع صوره على الشعب الفلسطيني، ولا أرى إلا أن «قانون الإقصاء» سيأتي على كيانهم في عاجل الأيام.

وقد تتحصن قارة بأكملها بالإقصاء؛ فتتخذ من الكهنة سوراً منيعاً لحماية هياكلها العتيقة، وترمي بمنجنيق الدين مَن يريد التغيير في أودية الحتف السحيقة، فتصدر فتاوى التكفير والترهيب ضد من يخالفها، وتمنح صكوك الغفران وتواقيع المديح الواقف معها. والنتيجة.. أن «قانون الإقصاء» دفع بالأوروبيين أن يهاجروا إلى العالم الجديد؛ أمريكا أرض الخلاص، وإذا بالمهاجرين في بضع مئات من السنين يفرضون سيادتهم على العالم أجمع، بل ويصبغونه بمدنيتهم الرأسمالية، ولا زالت حضارتهم حتى اليوم تقصر أمم الأرض أن تأتي بمثلها.

وأنت.. إن نظرتَ في معظم الهجرات التي تحصل للناس عن بلدانهم؛ ألفيتَ سببها بأن أرضهم ضاقت بهم، إما لاختلاف المعتقد الديني، أو معارضة الموقف السياسي، أو شح المعيشة، وما وراء ذلك إلا أنظمة جمدت حتى رثت حبالها وخَلِقت قمصانها، واهتمت بقشور الأمور، بدلاً من التجدد ومواكبة مسيرة الاجتماع البشري. وغالباً.. يقف خلف ضيق عطن هذه الأنظمة مصالح شخصية، أو قصور في النظر، أو عدم مبالاة بالأمر، أو قلة حيلة في إدارة المجتمع. ولا يظن ظان أن «قانون الإقصاء» يحابي أحداً لدين أو عرق، فلا تفيد الأماني فتيلاً ولا تجدي الأوهام قطميراً للنجاة منه، وهو لا يعمل في وقت دون وقت، أو مجتمع دون آخر، فهو قانون عام.

لقد كان الناس ينظرون للشيوعيين الماركسيين بأنهم حثالة ملاحدة حقها أن تُهان، فإذا ما مر شخص عليهم متحلقين حول طاولة في مقهى بصق على وجوههم، لشد ما غرست الحكومات الكُره لهم. ولم يطل الزمان بهم، حتى قاموا بثورتهم البلشفية في روسيا عام 1917م، فأطاحوا بالقيصرية، ثم تمددوا في العالم وسيطروا على نصف الكرة الأرضية، وهددوا نصفها الآخر بالسقوط بين أيديهم، حتى اشتعلت بينهم وبين الغرب حروب باردة كانت سجالاً، وحروب ساخنة -أغلبها بالوكالة- ذهب ضحية نيرانها ملايين الأبرياء. ولرُبَّ قائل يقول: إن الشيوعية لم تلبث طويلاً حتى سقطت سقوطاً مدوياً، يكاد لم يسمع له مثيل في الأرض. وهذا قول صدق.. لكن علينا أن نلحظ أمرين: الأول.. أنه لم يُسقِط هذا النظام الشمولي إلا «قانون الإقصاء» العتيد نفسه. والثاني.. أن الشيوعية قضت على الأنظمة التي سبقتها قضاءً مبرماً، وأجبرت الرأسمالية على التجدد، فتحققت غاية هذا القانون.

إن «قانون الإقصاء».. ليس تنظيراً معلقاً في سماء التخرّص، وإنما هو حقيقية قائمة على أرض الواقع، ولنا في العديد من الأنظمة العربية شاهد مبين، ولا يوجد ما يوقف عمل هذا القانون إلا قانون أقوى منه، وهو الاستيعاب، وفهم تحولات الأجيال، وتطوير الأنظمة بحيث تكون قادرة على التعامل مع المستجدات، وهذا قانون لا تستطيع عليه إلا الأنظمة والدول التي أوتيت العزم والحكمة في إدارة الحياة وبناء الدول والمجتمعات.

* خميس العدوي كاتب عماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب "السياسة بالدين"