الإصلاحات السياسية والاقتصادية.. أيهما أولا؟
تتمحور العملية التنموية في كل البلدان حول عملية الإصلاح، بشكل عام، والإصلاح السياسي والاقتصادي بشكل خاص، ويأخذ هذان الأخيران أهمية قصوى، حيث تقوم عليهما كل عمليات التنمية، فهما الركيزتان الأساسيتان، ومنهما تتناثر بقية عمليات الإصلاح للجوانب الاجتماعية والثقافية، وما يتسلسل منهما من عناوين كثيرة، ولذلك فكثيرا ما تطرح أسئلة محورية حول الإصلاح السياسي، وبشكل مقلق للغاية، وتندس ما بين هذه الأسئلة أسئلة أخرى أكثر حساسية، وهي العلاقة القائمة بين الأنظمة السياسية وبين الشعوب، وكأن طارحو هذه الأسئلة يفرقون بين النظام الذي يشار إليه بـ "الدولة"(خطأً) وبين الشعب، مع أن النظام هو الشعب، فكل من يضمهم النظام والفاعلين فيه، هم ليسوا عينة منتقاة من الشعب، بل هم يمثلون الشعب كله، من حضره وباديته، ومن القرى والحواضر، إذن هناك خلط مفاهيمي في هذه القضية، وتكرار هذه الخلط يؤصل صورا نمطية، ما يوجد مشاكل في فهم العلاقة، مما يؤدي ذلك إلى اتساع الهوة بين الطرفين، وكأَّن كل فريق يعمل ضد الآخر، وهذا خير صحيح في كثير من أحواله، وإذا عني بالحكومة في الإشارة والاتهام -والمحصورة في مؤسسات الخدمة- فإن الحكومة بهذا التوصيف هي جزء من النظام، وليست النظام كله، وبالتالي فالفهم العام يحتاج هنا أيضا إلى تحديد المفاهيم خوف الوقوع في مأزق الخلط، وتحميل المعاني فيما لا تحتمل.
يقال: إنه عندما يتم الاشتغال بالجانب السياسي، فإن في ذلك تضحية بالجانب الاقتصادي، وعندما يتم الاهتمام بالجانب الاقتصادي سيكون ذلك على حساب الجانب السياسي، وهذه موازنة شديدة الحساسية يدركها أكثر العاملين في الحقلين، ومعنى ذلك وكنتيجة لهذه الرؤية: فإما الاهتمام بالجانب السياسي، وإما الاهتمام بالجانب الاقتصادي، أما الاهتمام بكليهما سيوجد مجموعة من الفراغات التي ليس من اليسير إشغالها، ومعنى ذلك ختاما أن القضايا السياسية، والقضايا الاقتصادية ستظل محور العملية التنموية طوال السنوات مخيمة، وتعيش محنتها الشعوب، هل تصدق هذه النظرة في الواقع، ذلك يتطلب النظر مشرقا ومغربا، في تجارب مختلف الدول، وهذا ينفي وجود ديمقراطية مطلقة (جانب سياسي) أو رأسمالية مطلقة (جانب اقتصادي) ولا يزال الناس مختلفون، ولا تزال الأنظمة تعيش في محنة.
من المفاهيم المتداولة، وخاصة في شأن الإصلاح الاقتصادي هو المفهوم الذي يندرج تحت عنوان:"هل تريد إنقاذ وطنك؟ إذن بعه"وهو من المفاهيم الخطيرة والحساسة جدا، وهو عبارة من مجموعة من الممارسات التي تفرضها الدول الاستعمارية، والمنظمات الدولية ذات الطابع المالي، وخاصة على الدول المغلوب على أمرها، ويذهب المعنى إلى رفع الحكومات أيديها عن مجموعة من الأصول، وتسويقها عبر القطاع الخاص، حيث تسعى هذه المنظمات الدولية المجندة لخدمة الدول الاستعمارية السعي الحثيث لشراء هذه الأصول عبر الشركات القارية أو ما يطلق عليها "المتعددة الجنسيات"ومتى استطاعت هذه الشركات وضع يدها على الأصول في أي بلد، كان ذلك بمثابة بداية البداية لإغراق الدول تحت محنة الديون طويلة الأجل، حيث لا مخرج منها إلا بحدوث معجزة، وهذه المعجزة لن تحدث إلا بوجود نظام سياسي يدرك خطورة ما عليه بلده من استمرار هذه الديون، وتأصلها بزيادة مطردة مع مرور الزمن، وحرصه الشديد على التخلص منها من أقرب فرصة ممكنة، وهذا التخلص لن يتحقق بين ليلة وضحاها، حيث يحتاج إلى كثير من التضحيات، وإلى كثير من "شد الأحزمة على البطون" من خلال برامج تقشفية قاسية، يشترك في تنفيذ هذه البرامج جميع المواطنين بلا استثناء، مع ما سوف يواجهه من سخط شعبي غير منكور، إنها ضريبة ثقيلة تحتاج إلى كثير من التضحيات.
ينظر إلى تجدد الأزمات على مستوى دول العالم على أنها وليدة فشل الإصلاحات سواء في جانبها السياسي، أو جانبها الاقتصادي، ولأنه حتى الآن لا يوجد توافق سياسي اقتصادي في مختلف الأنظمة، فإن تجدد الأزمات قائم، ولن يقف عند حد معين، على الرغم من توفر معززات ينظر إليها بعين الأمل على أنها المخرج المحتمل للأزمات، وفي مقدمة ذلك الإصلاح السياسي المحكم، بما في ذلك القوى البشرية المؤهلة، مع أن القوى البشرية واقعه في مأزق الإصلاح السياسي الذي تتنازعه الكثير من التجاذبات، وحتى وإن نُظِرَ إلى السلطة التشريعية، على أنها المنقذ لبرنامج السلطة التنفيذية من الترهل، فإن الـ "تشريعية" لا تزال موطن شك وعدم ثقة من قبل جمهورها الذي أوصلها إلى تحت قبة البرلمان، وما مجموعة الصدامات التي تحدث تحت قمة البرلمان، مما يوشي عن تصدع في منظومة السلطة التشريعية، وعدم توافق واضح، تعكس دلالة واضحة أن هذه السلطة وعلى الرغم من اشتغالها الطويل لا تزال لم تبلغ سن الرشد، وهذا المسألة تقاس أكثر على تجارب دولية معمرة، وتأتي الدورة تلو الأخرى، والحال لا يخرج عن سابقه، هذا بخلاف الصراع التقليدي بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.
في المجمل إن الأنظمة السياسية تتكون من سلطات ثلاث رئيسية لتنفيذ برامجها الوطنية متمثلة هذه السلطات في: التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، ومعنى هذا أن تكاتف هذه السلطات وتعاضدها، وتوافقها يؤدي في المقابل إلى قوة النظام، ويعكس قدرته الكبيرة للإصلاح السياسي على وجه الخصوص، أما إذا اختل توازن العمل في أحد هذه السلطات، أو في مجملها ولو بنسب متفاوتة، فإن لذلك تداعيات خطيرة على قوة النظام السياسي وقدرته على مواجهة الأخطار التي تحيط به، أو تلك المتوقعة في عمليات التنمية المختلفة، وهذا ما يؤدي إلى زعزعة النظام الأمني الاجتماعي بالتحديد، حيث تنتشر المحسوبيات، والواسطات، وشيوع ثقافة الرشاوى، مما يؤزم موقف النظام السياسي، ويشغله كثيرا عن الإصلاح الاقتصادي، ولذلك من هنا، من يرشح أولوية إصلاح النظام السياسي، لارتباطه الكبير بالتموجات الشعبية التي تتقاطع فيما بينها حول الكثير من الاختلافات والخلافات، وذلك للتفاوت الطبقي، والمعرفي، وخبرات الحياة، الذي تعيشه كل المجتمعات بلا استثناء وليس مخصوص بعينه.
من خلال المتابعة لمجمل الأحداث التي تفرض أجندتها على هذا العالم، يتبين أن من يدفع فاتورة الإصلاح الاقتصادي هذا الامتداد العريض من الشعوب من خلال برامج التقشف المختلفة، وأغلب هذه البرامج تتداخل فيها الدول فيما بينها، إما بلي الأذرع كما هي ممارسات البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والدول الغنية التي تعطي بيد الفتات، وتقبض باليد الأخرى أضعافا مضاعفة وبالعملة الصعبة، أو من خلال الاحتلال البغيض المباشر، وتأتي الكوارث الطبيعية، والعمليات الإرهابية الممنهجة لتثقل هي الأخرى من كفة المعاناة، وتبقى في المقابل الأنظمة السياسية رهينة كل هذه التداعيات، فلا تستطيع أن تمسك العصا من الوسط لتجد لنفسها متسعا من الزمن للإصلاح الاقتصادي الحقيقي، والإصلاح السياسي الحقيقي، وما بين أمري الإصلاح الـ "مضغوط"من الخارج، وما بين المحنة التي يعيشها هذا الامتداد البشري الذي يرقب بعين الأمل ما سوف تسفر عنه كل هذه الممارسات تبقى الأنظمة في حالة لا تحسد عليها، فهي بين أمرين تمثلهما خير تمثيل مقولة: "فريق يشد الحبل من الداخل؛ وآخر يمارس ضغطه من الخارج"وبالتالي: فأيٌّ لهذا الحبل أن يحتمل، فهي محنة أنظمة في المقام الأول، ومن ثم شعوبها التي تتلقى المأزق الناشئ عن عدم التوفيق الآني لحلحلة القضايا العالقة في ظروف نشأتها زمانا ومكانا.
يقال إن النخب الفاعلة في السياسة، والاقتصاد، والثقافة والاجتماع يمكن أن تلعب دورا محوريا في دعم الإصلاحات السياسية والاقتصادية، إن هي أرادت ذلك، وقد ينظر إليها في الوقت نفسه؛ على أنها واحدة من المعوقات التي تواجهها الأنظمة السياسية، ولعل هذا الأخير هو السائد في كثير من التجارب الدولية، وخطورة هذه الصورة هي عندما يكون لهذه النخب اتصال مع الخارج، حيث تتنصل من وطنيتها الواجبة بحكم الانتماء، والهرولة سريعا نحو المصالح الشخصية التي يشاركها فيها غيرها لتعظيم الفائدة المادية المؤقتة، على حسابات الوطن ومدخراته، ولذلك تواجه الأنظمة السياسية الكثير من العناء، وهي تتقصى هذا النوع من النخب التي ترتهن لأجندات الخارج في صوت صريح ومخيف لاستغاثة الضمير، والمنطق الوطني الصادق.
