الإسلام وأهل الكتاب.. بنو إسرائيل وأهل الكتاب

18 مارس 2024
18 مارس 2024

لأجل أن نعيد قراءة فهمنا للعلاقة بين الإسلام وأهل الكتاب، والتي تأسست زمن البعثة المحمدية، ولا زالت قائمة، وهي تشكّل اليوم صراعاً عنيفاً بين الطرفين في فلسطين، وجدلاً حاداً بسيلٍ من الأطروحات والردود الدينية والتاريخية والفكرية، علينا أن نعرف من خلال القرآن: الفرق بين بني إسرائيل وأهل الكتاب، ومَن هو إسرائيل، وما المقصود بالكتاب؟ وأبدأ بالأسماء الأساسية الثلاثة: يعقوب وإسرائيل والأسباط:

- يعقوب.. نبي يوحى إليه من عند الله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) [النساء:163]، وهو ابن إسحاق بن إبراهيم، وبحسب القرآن من أبناء إبراهيم: (إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً) [البقرة:133]، والآية ليست صريحة بأنه ابن مباشر لإسحاق، فقد ذكرت إسماعيل أيضاً، والأصرح ما جاء أثناء الحديث عن امرأة إبراهيم: (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) [هود:71]، وعلى هذا يبدو أنه ولد زمن جده إبراهيم؛ أو على أقل تقدير زمن جدته.

- إسرائيل.. على كثرة ما ورد في القرآن من ذكر بني إسرائيل، إلا أنه لم يرد ذكره بذاته دون إضافة إلا مرتين، في قول الله: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إٍسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ) [آل عمران:93]، وبيّنت الآية أن وجوده كان قبل نزول التوراة، سأتحدث عنها في مقال آتٍ. وفي قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ) [مريم:58]، وعلى هذا؛ لم يصرّح القرآن بأن إسرائيل هو يعقوب، ولكنه سيُعتبَر هو عند المسلمين، ربما لأن القرآن ذكر النبوة في نسل يعقوب وخاطب بني إسرائيل بذلك. وعدم تصريح القرآن بأن إسرائيل هو يعقوب لا يعني نفيه، ولكن بناء هذه المقالات قائم على تتبع منطوق النص القرآني.

- الأسباط.. ورد ذكرهم في القرآن خمس مرات، وهم «أمم» من قوم موسى كانوا يهدون بالحق: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ، وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً) [الأعراف:159-160]. وفي التاريخ اليهودي فُقِدَ منهم عشرة أسباط، ومن المحتمل اندماجهم فيما بينهم؛ من جهة، وبينهم وبين الأقوام التي عاشوا معها؛ من جهة أخرى.

يرد في القرآن أن الأسباط أوحي إليهم، حيث ذكرهم في معرض ذكر الوحي للأنبياء: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً) [النساء:163]، وجاء تأكيد ذلك بآية وردت في سورتين: البقرة الآية 136، وآل عمران الآية 84، بفارق طفيف؛ إذ لم تكرر عبارة (وَمَا أُوتِيَ) قبل (النبيون) في آية آل عمران: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) [البقرة:136]، وهذا يجعلنا أمام ما يسمى في «علوم القرآن» بـ«مُشكِل القرآن»، ففي «سورة الأعراف» هم «أمم»، وفي هذه الآيات «يوحى إليهم»، ولا يوحى إلى أمة بأكملها، فضلاً عن أمم تبلغ اثنتي عشرة أمة، وعلى هذا لا يمكن حمل الأسباط الذين أوحي إليهم على الأمم، والأقرب أن يُفسَّروا بالفروع، وكل رأس فرع كان نبياً، وكانوا متزامنين كما يفهم من الآيات التي ذكرتهم. ويصعب حملهم على أنهم أبناء يعقوب المباشرين، لما بدر منهم في حق أخيهم يوسف من الكيد له ومحاولة قتله، ثم إلقائه في غيابة الجب، وهذا مما عُصِم منه الأنبياء.

لا يمكن حسم قضية الأسباط؛ لا بتأويل للنص القرآني، ولا أخذاً من التوراة، ولا اعتماداً على التاريخ، لذلك؛ القرآن يتحدث عن بني إسرائيل بصفة مجملة، دون تفصيل أمر يعقوب في كونه أباً لهم، ولا بيان مَن هو إسرائيل، ولا توصيف الأسباط.

وبعد.. فندخل للحديث عن بني إسرائيل وأهل الكتاب، لننفذ منه إلى علاقتهم بالإسلام، والتي قد تمتد إلى عدة مقالات. يرد الحديث عن «أهل الكتاب» بهذا اللفظ، وبألفاظ: أوتوا الكتاب وآتيناهم الكتاب وأورثوا الكتاب وأورثناهم الكتاب ويقرأون الكتاب. وكلها بمعنى واحد: (وَمَا تَفَرَّقَ الَذينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) [البينة:3-5]، فهم الذين أنزلت التوراة والإنجيل عليهم، وإنما قد تكون هناك فوارق بيانية يقتضيها السياق القرآني، وهذا ليس محله هنا.

بما أن تسمية بني إسرائيل بأهل الكتاب جاءت بعد أن أوتوا الكتاب: التوراة والإنجيل، فهذا يعني أن التسمية كانت حادثةً عليهم، أي أنه في الفترة التي بين إسرائيل ونزول التوراة لم يكن تصدق عليهم التسمية بأهل الكتاب، وبالتالي؛ لا توجد مماهاة تامة بين بني إسرائيل وأهل الكتاب. ويتفرع عن هذا.. أن فروعاً «أسباطاً» من بني إسرائيل؛ خاصةً العشر المفقودة لم تكن من أهل الكتاب، وحتى من بقي من الفرعين «السبطين» فإن أقواماً منهم خرجوا بمرور الزمن عن كونهم من أهل الكتاب، كما أن معتنقي اليهودية والنصرانية وهم الغالبية الساحقة؛ لاسيما من دخل في النصرانية، هم كذلك من أهل الكتاب.

عندما يذكر القرآن أهل الكتاب وأتوا الكتاب فهو يقصد اليهود والنصارى، وبالذات النصارى وليس المسيحيين، وقد بيّنت الفرق بينهما في مقالي «الإسلام وأهل الكتاب.. النشأة الإبراهيمية» المنشور بتاريخ: 12/ 3/ 2024م، في جريدة «عمان». والسؤال الذي يثور: هل المسيحيون من أهل الكتاب؟ سؤال يستحق أن يجاب عليه مستقلاً، وهذا ما أرجوه مستقبلاً؟

عندما يذكر القرآن بني إسرائيل زمن البعثة المحمدية فهو يقصد اليهود دون النصارى، وأما عندما يتحدث عنهم في زمن المسيح عيسى بن مريم نفسه، فهو يتحدث عنهم بكونه مرسلاً إليهم كقول الله: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ) [الصف:6]، ورغم أنه آمنت طائفة من بني إسرائيل به: (قَالَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ) [الصف:14]، إلا أن العلاقة عموماً كانت متوترة بينهم: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) [المائدة:78].

وقد ذكر القرآن أن أتباع عيسى بن مريم هم الحواريون، وهم أنصاره: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 52]. ورغم أن هذه الآية جاءت في سياق ذكر بني إسرائيل بعد أن قال لهم عيسى: (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [آل عمران:49]، إلا أنها لا تدل صراحة أن الحواريين كانوا من بني إسرائيل، إذ آمنت طائفة منهم بعد أن آمن الحواريون كما تشيء به آية «سورة الصف» السابقة.

ختاماً.. هذه عموم الرؤية التي قدمها القرآن عن بني إسرائيل وأهل الكتاب وقت تنزّل الوحي المحمدي، إلا أنه حصل تداخل في فهمها نتيجة تأثير «الإسرائيليات» وبفعل التأويل المستمر لآيات القرآن، وكثيراً ما يجري إخراجها عن سياقها الزمني الذي نزلت فيه.

خميس العدوي كاتب عماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب «السياسة بالدين»