الإسلام وأهل الكتاب.. الدعوة المحمدية

25 مارس 2024
25 مارس 2024

الدعوة المحمدية.. منذ بدئها ترسمت خطى دعوات الرسل: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) «الأحقاف:9»، فقد جاءت امتداداً للملة الإبراهيمية، بحيث أصبحت ممثِّلةً لدعوة النبي إبراهيم والأنبياء الكرام من أبنائه. والنبي الخاتم محمد هو «المخلِّص»، ليس على الطريقة اليهودية بتخليص شعب معيّن من تيهه، ولا على العقيدة المسيحية بتخليص البشر من عقدة الذنب التي ارتكبها أبوهم آدم، فـ«أرسل الله ابنه ليُقتل على الصليب»، وإنما على الملة الإبراهيمية، بدعوة الناس إلى توحيد الله الذي ليس كمثله شيء و(لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ) «الأنعام:103». وبثقة الأنبياء الموصولين بالله كان النبي منذ أول بعثته على إصرار بأنه سينتصر، وسيجلب للبشرية «الخلاص الإيماني»، فكان من الواجب الديني أن يتوجه بدعوته إلى أهل الكتاب: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) «المائدة:19».

لقد كانت الدعوة لأهل الكتاب محددة، وهي توحيد الله ونفي الشرك به بكافة أشكاله: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) «آل عمران:64».

جرّد القرآن الدين من «الطائفية الدينية»، ولم يعترف إلا بملة إبراهيم الموحدِّة لله: (وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) «البقرة:135»، ولا يذكر القرآن الأنبياء وأتباعهم إلا بأنهم مسلمون، وهذا أهم تصور وصل لأهل الكتاب -وغيرهم- عن الدعوة المحمدية. وفي إطار نشر هذا التصور بينهم، ولأجل دعوتهم إلى الإسلام، وفي سبيل إعادة بناء «المنظومة الكتابية» القديمة بإرثها النبوي؛ فإن الله فضّل بني إسرائيل على العالمين: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) «البقرة:47»، وهو تفضيل مرتبط بعهد النبوة: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) «البقرة:124». ولذلك؛ ندّد القرآن بكفرهم وعدوانهم: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) «المائدة:78».

وفقاً للمذهب النسطوري النصراني المنتشر حينذاك بجزيرة العرب، والذي كانت معتقداته في الإيمان بالله وبشرية عيسى وأمه مريم التي أحصنت فرجها متقاربة مع ما جاء به القرآن؛ فإنه -في ظل الصراع بين روما المسيحية وفارس المجوسية على المنطقة- جعل كثيراً من هؤلاء النصارى يدخلون الإسلام، ويبدو أنهم اعتبروه تجديداً وانتصاراً لدينهم، ولذلك؛ امتدحهم القرآن وامتدح بعض قسيسيهم ورهبانهم: (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ، وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ، وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ، فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) «المائدة:82-85». وهذه الاستجابة للدعوة المحمدية تنطبق على عموم النصارى وبعض قساوستهم ورهبانهم، ولم تكن خطاً مطرداً بين جميعهم، كما سيأتي.

لقد بيّن القرآن للنصارى بأن النبي محمداً سائر على طريق الأنبياء، ومنهم المسيح عيسى بن مريم «كلمة الله وروحه»، بل إن المسيح بشّر به: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) «الصف:6». كما أنه «مكتوب» في التوراة والإنجيل: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) «الأعراف:157»، وبرأيي؛ أن التبشير جاء بالوصف، لأن القرآن يطلق على الأوصاف أسماء، كما في أسماء الله الحسنى.

دعا القرآن أهل الكتاب إلى العمل بمقتضى التوراة والحكم بما جاء في الإنجيل، إلا أن الله أمر النبي محمداً أن يحكم بينهم بما أنزل عليه: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) «المائدة:48»، فالله.. لم يصادر عليهم أحكامهم التي وردت في كتبهم المنزلة، بل أقرّ لهم وجودهم ضمن الأمة التي تتسع للأديان بشرط أن تكون مُوحِدة لله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) «البقرة:62»، وفتح لهم باباً للاندماج الاجتماعي مع المسلمين: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) «المائدة:5»، كما أمر الله بالترفق في جدالهم: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) «العنكبوت:46».

ومع كل هذا.. من الدعوة إلى توحيد الله، وتفضيل أسلافهم على العالمين لتتابع الأنبياء فيهم، وحفظ مكانتهم الدينية بالاعتراف بشرائعهم (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً)، وموقف بعض قسيسي النصارى ورهبانهم الإيجابي من الدعوة المحمدية، وإسلام بعضهم، كان رد كثير منهم سلبياً، فهم يرغبون أن يرتد المسلمون عن دينهم: (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) «آل عمران: 69»، بل كانوا لتحقيق مرادهم هذا يخلطون بين الحق والباطل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) «آل عمران:71-72».

لقد كان كثير من الأحبار والرهبان يصدّون عن «سبيل الله»؛ والمقصود هنا الدعوة إلى الإسلام: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) «التوبة:34». وكان غالب أمر اليهود عدائياً للدعوة المحمدية: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) «المائدة:82».

وأصبحت رغبة كثير من أهل الكتاب الذين يصفهم القرآن بـ«الحسد»؛ أن يرجع المسلمون عن دينهم، ومع ذلك؛ فقد أمر الله المسلمين أن يعفوا ويصفحوا عنهم: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) «البقرة:109».

يبدو أن الوضع ازداد توتراً تجاه الدعوة المحمدية؛ فكان رد أهل الكتاب الكفر بما جاء به النبي، بل وعملوا على الصدِّ عنه: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً) «آل عمران:98-99». وأخيراً؛ وصل الحال بينهما إلى الانفصال: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) «البقرة:145»، ولم يعد يقنعهم إلا الدخول في ملتهم: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) «البقرة:120».