الأهداف الاستراتيجية للحرب في أوكرانيا هل تتحقق؟
اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا هي في ظاهرها حرب تقليدية تهدف إلى أهداف روسية يأتي في مقدمتها منع حلف الناتو من الاقتراب من الجغرافيا الروسية من خلال عضوية محتمله لأوكرانيا في الحلف كما أن الهدف الآخر لروسيا يتمثل في فرض الواقع السياسي في شرق أوكرانيا حيث وجود الأغلبية الروسية التي تسعى إلى إيجاد كيانات مستقلة أو حتى الانضمام إلى الاتحاد الروسي، كما أن روسيا الاتحادية ترغب في وجود دولة جارة كأوكرانيا على وفاق سياسي إلى حد ما على غرار الجمهوريات السوفييتية السابقة أو بعضها على الأقل كما هو الحال مع جمهوريات آسيا الوسطى وأيضا بيلاروسيا.
أما فيما يخص الأهداف الاستراتيجية للحرب فقد بدأت بعض ملامحها في الظهور بين روسيا الاتحادية والغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
حرب الطاقة
من أهم ملامح الحرب الروسية على أوكرانيا هو حرب الطاقة خاصة تسويق الغاز الروسي على وجه التحديد، وهي من أهم الأوراق الاستراتيجية التي تملكها روسيا الاتحادية ضد الدول الأوروبية تحديدا.
ومن هنا بدأت حرب عض الأصابع تظهر على هامش الحرب في ظل العقوبات الاقتصادية القاسية من الغرب ضد موسكو، وهذا فرض على الرئيس الروسي بوتين أن يستخدم إحدى أوراقه الحيوية وهي الغاز الروسي من خلال الربط بين مشتريات الغاز والدفع بالعملة المحلية الروسية وهي الروبل.
ويعد هذا تحديًا استراتيجيًا للعملة الأمريكية وهي الدولار، وهذا الأمر إن حدث فسوف يعمل انقلابا كبيرا على صعيد نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية والمؤسسات المالية الأمريكية، وقد يكون ذلك إيذانا بانتهاء سطوة الدولار في التعاملات الدولية ولعل مسألة كسر هيمنة الدولار ليست المحاولة الأولى بل إن الصين تواصل جهودها لتسويق عملتها المحلية اليوان ليكون ضمن سلة العملات الدولية.
ومن هنا فإن الخطوة الروسية جاءت لإنهاء احتكار العملة الأهم على صعيد الاقتصاد الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الآن كما أن تأثير انحسار العملة الأمريكية سوف يكون له انعكاس سلبي على المؤسسات المالية المهمة كصندوق النقد الدولي على سبيل المثال.
إذن الحرب العسكرية في أوكرانيا هي الجانب الظاهر من الأزمة ولكن هناك حربا خفية ذات طبيعة استراتيجية بدأت في الظهور وخاصة فيما يتعلق بحرب الطاقة والذي جعل الرئيس الأمريكي بايدن يضخ مليون برميل من الاحتياطي كل يوم وهناك ضغط أمريكي على عدد من الدول لاستخدام جزء من احتياطها النفطي بهدف التخفيف من صعود الأسعار، التي وصلت إلى قرابة ١٤٠ دولارًا للبرميل، مع بداية اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية، وعلى ضوء ذلك فإن حرب الطاقة بين روسيا الاتحادية والغرب سوف يمتد إلى أطراف أخرى لها علاقة بالطاقة خاصة دول أوبك بلس حيث لا يزال هذا التكتل المهم صامدًا وملتزمًا بحصص الأسعار وهو الأمر الذي يعود على الدول المنتجة للنفط من داخل تكتل أوبك وخارجه بأسعار عادلة.
ويبدو أن أوروبا هي الطرف المتضرر من حرب الطاقة لأن إيجاد بديل عن الغاز الروسي هي عملية صعبة وتحتاج إلى سنوات علاوة على أن هناك ميزة اقتصادية للغاز الروسي الذي يتدفق على عدد من الدول الأوروبية مثل ألمانيا والنمسا وإيطاليا وفرنسا وحتى تركيا عبر الأنابيب التي تمتد من الجغرافيا الروسية والأوكرانية إلى الجغرافيا الأوروبية كما أن هناك عقودا طويلة الأمد بين الحكومات الأوروبية وروسيا الاتحادية.
ومن هنا فإن حرب الطاقة هي اختبار مهم على مدى صمود أوروبا ضد الخطوة الروسية ومسألة اعتماد الروبل كعملة تتم بها المبيعات، كما أن العقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا قد لا تكون فعالة كما حدث مع دول أخرى منها إيران لأن هناك خيارات واضحة كالصين وتركيا وحتى الهند. ومن هنا فإن الورقة الاستراتيجية الروسية في مجال الغاز تبقى هي الورقة الأهم بجانب أن روسيا تلوح بين فترة وأخرى بمسألة الاستعداد النووي وهذه مسألة تثير حساسية ومخاوف العالم خاصة أوروبا والتي تعد الأقرب جغرافيًا إلى روسيا الاتحادية خاصة الجزء الشرقي منها.
الحرب النووية
الخطورة في الحرب الروسية-الأوكرانية هو وجود تكتل غربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ضد دولة واحدة هي روسيا الاتحادية، ومن خلال استقراء الصراعات فإن هناك تخوفًا أن تنزلق الأمور إلى أبعد من الحرب التقليدية وتتدحرج نحو الجغرافيا الأوروبية وهو الأمر الذي قد يشهد حربا نووية مدمرة خاصة أن موسكو وقادتها العسكريين أشاروا أكثر من مرة بأنه في حالة التهديد المباشر للدولة الروسية فإن مسألة استخدام السلاح النووي هو خطوة لا بد منها للحفاظ على البعد الوجودي للكيان الروسي وهذه أحد أخطر الأوراق الاستراتيجية التي تملكها روسيا الاتحادية وكذلك الغرب.
وهناك غريزة متأصلة للطرف الأوحد تجاه المجموعة المعادية، وهناك ضغط إعلامي ودبلوماسي كبير على روسيا الاتحادية فيما يخص سلوكها العسكري في أوكرانيا.
هذه الضغوط الاقتصادية والإعلامية والدبلوماسية هي التي تجعل من مسألة استخدام الأوراق الاستراتيجية أمرًا محتملًا ومنطقيًا، فالسؤال الأهم هل يريد الغرب والولايات المتحدة الأمريكية إيصال روسيا الاتحادية إلى نقطة اللاعودة من خلال تلك الضغوط؟ أو أن المسألة لا تعدو كونه ضغطًا طبيعيًا لإنهاء الحملة العسكرية الروسية ضد أوكرانيا؟. كما أن روسيا الاتحادية لها أهداف أعلنت عنها خلال المفاوضات مع الجانب الأوكراني منها إعلان كييف عن عدم نيتها الانضمام إلى حلف الناتو وأن تكون دولة حيادية بكل ما تملكه هذه الكلمة من معانٍ سياسية وعسكرية وأيضا مسألة جزيرة القرم غير قابلة للنقاش.
ومن هنا فإن ما يحدث الآن خلال الحرب الروسية-الأوكرانية هو صراع إرادات وصراع خفي لتحقيق الأهداف الاستراتيجية خاصة لدول الناتو سواء على صعيد الطاقة وتجريد موسكو من أن تكون اللاعب المؤثر في هذا المجال خاصة فيما يخص الغاز أو على صعيد انطلاق روسيا الاتحادية والصين ومجموعة شنغهاي لتكون أقطابا جديدة في العالم تنتهي معه سيطرة القطب الأمريكي الواحد المتواصل منذ تفكك الاتحاد السوفييتي في بداية عقد التسعينيات.
الصراع يتواصل
على ضوء الصراع العسكري الروسي-الغربي في معطياته الاستراتيجية والاقتصادية فإن ثمة تساؤلات حول انتهاء المشهد، أما من خلال المفاوضات الحالية في إسطنبول بين الجانب الروسي والجانب الأوكراني أم أن تلك الأهداف الاستراتيجية وتحقيقها من قبل الغرب تحتم استمرار الصراع واستمرار الهالة الإعلامية والدبلوماسية ضد روسيا الاتحادية مع تواصل العقوبات الاقتصادية القاسية بهدف دفع روسيا إلى خطوة قد تؤدي إلى الأسوأ وهي الحرب النووية المدمرة التي لا يريدها العالم شرقه وغربه، ومن هنا فإن المفاوضات تبقى هي الخيار الأفضل ومن خلال مرونة سياسية متبادلة بين موسكو وكييف.
عوض بن سعيد باقوير صحفي وكاتب سياسي
