الأمنُ القوميُ العربيُ... لا أثرَ ولا عينَ

14 فبراير 2024
14 فبراير 2024

لا تكاد تخلو قمة عربية أو اجتماع لوزراء الخارجية العرب أو مؤتمر أو منتدى أو ملتقى يعنى بالشأن العربي، دون الإشارة إلى مصطلح الأمن القومي العربي. وعندما تطلب تعريف لهذا المصطلح، أو تسأل عن محددات أو مهددات الأمن القومي العربي، يتلعثم الجميع. وبالعودة إلى الاجتماع التحضيري الأهم لظهور الكيان الجامع للدول العربية، حيث اجتمعت خلال فترة من ٢٥ سبتمبر إلى ٧ أكتوبر من عام ١٩٤٤م سبع دول عربية، وهي سوريا ولبنان وإمارة شرق الأردن (الأردن حاليا) والعراق ومصر واليمن والمملكة العربية السعودية، حيث وقعت على ما يعرف بـ«بروتوكول الإسكندرية»، وقد نصت هذه الوثيقة على عدد من المبادئ حول إنشاء وتسيير المنظمة التي ستجمع الدول العربية المستقلة. وخلال هذا الاجتماع رجح الاتجاه الداعي إلى وحدة الدول العربية المستقلة، بما لا يمس استقلالها وسيادتها، حيث اقترح الوفد السوري تسمية رابطة الدول العربية بـ«التحالف العربي»، واقترح الوفد العراقي تسميتها بـ«الاتحاد العربي». إلا أن الوفد المصري قدم تسمية «الجامعة العربية»، وذلك لملاءمتها من الناحية اللغوية والسياسية وتوافقها مع أهداف الدول العربية. ثم نُقح الاسم ليصبح «جامعة الدول العربية». وفي ٢٢ مارس من عام ١٩٤٥م تم التوقيع في القاهرة على ميثاق «جامعة الدول العربية» من قبل ممثلي رئيس الجمهورية السورية وأمير شرق الأردن وملك العراق وملك المملكة العربية السعودية ورئيس الجمهورية اللبنانية وملك مصر وملك اليمن، منهم ٥ رؤساء حكومات، حيث نصت المادة (١) من الميثاق على «تتألف جامعة الدول العربية من الدول العربية المستقلة الموقعة لهذا الميثاق. ولكل دولة عربية مستقلة الحق في أن تنظم إلى الجامعة..»، ونصت المادة (٢) من الميثاق على أن «الغرض من الجامعة توثيق الصلات بين الدول المشتركة فيها، وتنسيق خططها السياسية، تحقيقاً للتعاون بينها وصيانةً لاستقلالها وسيادتها، والنظر بصفة عامة في شؤون البلاد العربية ومصالحها». حيث «لا توجد أي إشارة» في الميثاق إلى موضوع الأمن القومي العربي وكذلك الأمر في «معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي» بين الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية والموقعة في ١٧ يونيو١٩٥٠م. ويعد بداية ظهور مصطلح الأمن القومي على الساحة السياسية الدولية إلى عام ١٩٤٧م في الولايات المتحدة الأمريكية من خلال قانون الأمن القومي لعام ١٩٤٧م الذي صدر عن الكونجرس الأمريكي والذي أُسس بموجبه مجلس الأمن القومي ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية (C.I.A)، وكان اختصاص المجلس في البدايات نصح الرئيس بكل ما من شأنه المساس بالأمن الداخلي أو الخارجي على المستوى السياسي أو الاقتصادي ومصالح الدولة الأمريكية الحيوية. وتعد أول إشارة لـ«مصطلح الأمن القومي العربي» تظهر في وثائق جامعة الدول العربية، وثيقة اقتصادية بعنوان «استراتيجية العمل الاقتصادي العربي المشترك» التي تبنتها القمة العربية في عمّان بالمملكة الأردنية الهاشمية في عام ١٩٨٠م، حيث نص البند الخامس في القسم الأول من هذه الوثيقة على أن «الأمن القومي ضرورة مصيرية جديرة بكل الجهود والتضحيات اللازمة». ولاحقًا، استخدم مصطلح «الأمن القومي العربي» ثلاث مرات في «قمة القاهرة» في عام ١٩٩٦م، عندما تطرقت إلى الحديث عن الارتباط بين الأمن القومي العربي الشامل في مواجهة التحديات التي تهدد سيادة الدول العربية ووحدة أراضيها ومواردها الطبيعية وكذلك ارتباط الأمن القومي العربي بالأمن الوطني في كل دولة عربية. إضافة، إلى تأكيد القمة أن ضمان الأمن القومي العربي بمعناه الشامل هو أفضل سبيل للحفاظ على كيان الأمة العربية وحماية مصالحها. وقبل ذلك وتحديدًا في ١٣ مارس من عام ١٩٩٠م وأثناء بحث موضوع استهداف الساحل الليبي بصاروخ إسرائيلي، اتخذ مجلس جامعة الدول العربية قرارًا كلف فيه الأمانة العامة للجامعة بوضع دراسة شاملة عن موضوع الأمن القومي العربي وعرضها على الدول الأعضاء تمهيدًا لدراستها من قبل مجلس الجامعة في دورته العادية القادمة. وبعد شهرين من هذا القرار وتحديدًا في ٢٨ مايو ١٩٩٠م عُقدت القمة العربية في بغداد، حيث قدمت الأمانة العامة للجامعة ورقة بعنوان «الأمن القومي العربي.. عرضٌ للتهديدات والتحديات». وتعد هذه الورقة هي الورقة الوحيدة التي قدمت تعريف للأمن القومي العربي وملابساته ومكوناته، تحت العناوين التالية: «الأمن القومي السياسي» و «الأمن القومي الاقتصادي» و «الأمن القومي العسكري» و «تنقية الأجواء العربية». ويمكن إيجاز الورقة بأنها عرفت مفهوم الأمن القومي العربي، في المكون السياسي، بأنه «حماية مقومات الوجود العربي، وأهمها الأرض والهوية، وتطوير هذه المقومات وصولًا إلى تحقيق الأهداف القومية وذلك في مواجهة الأخطار الخارجية والداخلية القائمة والمحتملة». وبالرغم من اعتدال ووسطية التعريف في هذه الورقة، إلا أنه لم يصدر عن قمة بغداد أي قرار حول الأمن القومي العربي ومكوناته، واستمر هذا الوضع إلى يومنا هذا، بالرغم من الاجتهادات التي تظهر بين الفينة والفينة، ومنها الجهد المحمود للجنة الشؤون الخارجية والسياسية والأمن القومي بالبرلمان العربي باجتهادها بصياغة تعريف في هذا الشأن. ويمكن القول إنه تم العصف بمفهوم الأمن القومي العربي -إن وجد- بأبعاده الاستراتيجية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية من خلال قيام العراق بغزو الكويت في الثاني من أغسطس من عام ١٩٩٠م، وما نتج عن ذلك من قيام عدد من الدول العربية بإبرام اتفاقيات حماية ودفاع مشترك مع عدد من الدول الأجنبية، وانعقاد مؤتمر مدريد للسلام خلال الفترة من ٣٠ أكتوبر إلى ١ نوفمبر ١٩٩١م، وما نتج عنه لاحقا من قيام منظمة التحرير الفلسطينية بتاريخ ١٣ سبتمبر ١٩٩٣م بالتوقيع على معاهدة أوسلو «لإعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي» مع الكيان الصهيوني في واشنطن. وسقط بذلك مفهوم العدو المهدد للأمة العربية، وهو الكيان الصهيوني، وظهر مصطلح جديد هو «الشرق أوسطية». وتبع ذلك، مسلسل التطبيع مع كيانٍ عرف عنه، في القرآن الكريم، سوء الأدب مع الله وتحريف كلام الله وكتمان الحق وتكذيب الرسل وقتل الأنبياء وكراهية المسلمين ونقض المواثيق. إن ما يحدث في غزة من جرائم ومجازر وإبادة جماعية يندى لها جبين الإنسانية، والذي بلغ عدد ضحاياها ١٠٠ ألف -حتى تاريخ كتابة هذا المقال- من بين شهيد وجريح ومفقود معظمهم من النساء والأطفال، والمحرقة الشاملة التي ارتكبها الكيان الصهيوني تجاه كل ماله علاقة بالحياة، من مستشفيات وجامعات ومساجد وكنائس ومدارس ومبان واستخفافه بكل القوانين والأعراف الدولية والإنسانية، والتواطؤ والدعم العلني للدول العظمى، التي تدعي التحضر واستخفافها بالحكومات العربية ومصالحها معها. يضع هذه الحكومات -العربية- في مفترق تاريخي، تجاه مستقبل هذه الأمة. ففلسطين، إذا استثنينا رابطة الدين والدم والإنسانية، بموجب ميثاق جامعة الدول العربية، وفق قرار مجلس الجامعة رقم ٣٤٦٢، الذي اتخذه مجلس الجامعة بتاريخ ٩ سبتمبر ١٩٧٦م، بقبول فلسطين، ممثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية، عضوًا كامل العضوية في جامعة الدول العربية، ووفق المادة (٢) من الملحق الخاص «بالانعقاد الدوري لمجلس جامعة الدول العربي على مستوى القمة»، الذي تم اعتماده واعتباره جزءًا مكملًا لميثاق جامعة الدول العربية، بموجب قرار مؤتمر القمة العربي غير العادي، رقم ١٩٨ بتاريخ ٢٢ أكتوبر ٢٠٠٠م والذي عُقد في القاهرة -في أول إشارة لمصطلح الأمن القومي العربي وبدون تعريف أيضا في ميثاق جامعة الدول العربية- والذي ينص على أنه «يقوم مجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة بالنظر في القضايا المتعلقة باستراتيجيات الأمن القومي العربي بكافة جوانبه، وتنسيق السياسات العليا للدول العربية تجاه القضايا ذات الأهمية الإقليمية والدولية...»، والمادة (٣) من الملحق نفسه، التي تستوجب عقد قمة غير عادية في حالة بروز مستجدات تتصل بسلامة الأمن القومي العربي. والمادة (٢) من معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي بين دول الجامعة العربية والتي تنص على أنه «تعتبر الدول المتعاقدة كل اعتداء مسلح يقع على أية دولة أو أكثر منها أو على قواتها، اعتداء عليها جميعاً. ولذلك فإنها عملًا بحق الدفاع الشرعي -الفردي والجماعي- عن كيانها تلتزم بأن تبادر إلى معونة الدولة أو الدول المعتدى عليها، وبأن تتخذ على الفور منفردة ومجتمعة، جميع التدابير وتستخدم جميع ما لديها من وسائل بما في ذلك استخدام القوة المسلحة لرد الاعتداء»، الدفاع عنها واجب قانوني، ولا يمكن للدول العربية أن يكون لها موقع تقدير على المستوى الدولي مستقبلاً وهي تأخذ جانب المتفرج في هذا الشأن، بالرغم من استعلاء الكيان الصهيوني والتعامل بازدراء مع هذه الدول، وهو في الواقع كيانٌ هش وبينت أحداث غزة أنه أضعف من ما كان يتصور الجميع. فالدول العربية التي يبلغ عددها ٢٢ دولة ويتجاوز عدد سكانها ٤٧٠ مليون نسمة ومساحتها الكلية يقارب ١٤ مليون كم مربع تملك ثروات طبيعية واقتصادية وبشرية هائلة حيث يتجاوز الناتج القومي الإجمالي ٣.٤٦ ترليون دولار في عام ٢٠٢٣م، تعد من أكثر الدول في العالم إنفاقًا على التسلح وعلى القوات العسكرية حيث تجاوز الإنفاق العسكري لــ ١٣ دولة عربية في عام ٢٠٢٢م ١٣٧ مليار دولار وفق إحصائيات المواقع العسكرية والاقتصادية الدولية. الأمر الذي يجعل الدهشة حاضرة لدى كل من يعيش في هذه الدول من حجم الضعف والهوان الذي تعيشه الأمة العربية، بالرغم من كل هذه المقومات وقيام الحكومات العربية -بشكل خطير- بزيادة مسافة الابتعاد عن شعوبها، بخذلانها لقضية فلسطين -وهي قضية وجودية ووجدانية لدى كل عربي على مدى أكثر من ٧٥ عاما- وهي قضية كل مسلم وكل إنسان حُر في هذا العالم، وزيادة الاحتقان لدى هذه الشعوب التي تعاني معظمها في الأصل من مشاكل اقتصادية وغياب للعدالة الاجتماعية. فما يربط الشعوب العربية بقضاياها التاريخية والمصيرية، كقضية فلسطين، أكبر من أن يتم تهميشه بهذا الشكل، ويحضرني في هذا المقام قول شاعر النيل الكبير، حافظ إبراهيم:

إِذا أَلَمَّت بِوادي النيلِ نازِلَةٌ

باتَت لَها راسِياتُ الشامِ تَضطَرِبُ

وَإِن دَعا في ثَرى الأَهرامِ ذو أَلَمٍ

أَجابَهُ في ذُرا لُبنانَ مُنتَحِبُ

فالأمة العربية من المحيط إلى الخليج أمة واحدة. ولديها عقيدة إيمانية راسخة، بأن قضية فلسطين هي قضيتها الكبرى، التي يوجد لها موقع في قلب ووجدان كل أفراد هذه الأمة، من الطفل الصغير إلى الشيخ المسن، وأن على الحكومات العربية «المعنية»، أن تستيقظ من سباتها العميق، قبل أن تكتشف متأخرًا، أنها بتهاونها وتخاذلها في التعاطي مع غطرسة الكيان الصهيوني الإجرامية تجاه الشعب الفلسطيني في غزة وفي بقية مناطق فلسطين، واستفزازه المستمر لكرامة هذا الشعب الصامد وكل الشعوب العربية، تكون قد دقت مسمار نعشها في مواجهة شعوبها، وكما يقال «الأمة التي تضحي بمصالحها الحيوية من أجل أن تتجنب حرب، ليس لديها أمن قومي».