الأصول الاجتماعية كمحركات التنمية

28 نوفمبر 2023
28 نوفمبر 2023

عاد نوفمبر المجيد يسطر صفحات المجد، ويكتب للتاريخ منجزات ومآثر هذا الوطن العظيم، وفي ذكرى العيد الوطني الثالث والخمسين جاء الخطاب السامي التاريخي الذي تفضّل به صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -أيده الله- جامعًا ووافيًا؛ إذ ضم التأكيد على الثوابت الخارجية والركائز الاستراتيجية على الصعيد المحلي، وحمل الخطاب السامي مضامين عميقة للرؤية الحكيمة والنهج السديد الذي يتطلع إليه الإنسان العماني، والبشر في كل مكان في العالم مع زيادة التوترات الإقليمية وحاجة البشرية الماسة للاستماع لصوت الحكمة والسلام، ومع الثراء الكبير في الموضوعات الكبرى التي تطرق إليها هذا الخطاب التاريخي، يجب على القارئ المتمعن أن يستلهم الدروس المستفادة ويضع لها الخطوط المستقبلية لتحقيقها، ويبحث عن الأدوات والأطر التي من خلالها يمكن التسريع في ترجمة هذه التوجيهات القيمة على واقع عملي وملموس، إذن ماذا يحمل الخطاب من دروس للتنمية الوطنية المتوازنة والشاملة وتحديدا للجانب الاجتماعي منه؟ إن قراءة نص النطق السامي يعكس جملة من الاتجاهات الاستراتيجية وعلى رأسها الاهتمام السامي بالجوانب الاجتماعية، مثل التأكيد على أهمية المحافظة على السمت العماني ودعم القطاعات الاجتماعية، وهنا لا بد من قراءة تحليلية لهذا البعد المهم الذي يمثل الإنسان؛ هدف التنمية وأساسها، حيث يشهد العالم تغيرات تكنولوجية واجتماعية واقتصادية، وتمر البشرية في وقتنا الراهن بالعديد من التوترات والصراعات المدمرة والحروب الطاحنة على الصعيد الميداني، وكذلك على الصعيد الافتراضي غير الملموس مع تقدم الرقمنة وتقنيات البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي، وهناك جوانب محورية وذات أهمية كبيرة في تعزيز التكيف مع هذه المتغيرات ولكن قد لا يلتفت إليها الكثيرون وهي تلك الثروات والأصول الاستراتيجية للمجتمع، مثل السمات المجتمعية، وحصيلة المعارف التقليدية، والرصيد الثقافي غير المادي، والإرث التاريخي، وهناك طيف واسع من هذه الأصول التي تكتسب خصوصية الوطن أو الإقليم الذي تشكلت فيه، ويجمعها قاسم مشترك، وهي أنها تتمحور حول إنسان تلك الأرض، ولا تقتصر أهميتها في كونها تعكس تاريخ وهوية المكان، ولكن هناك أبعاد أخرى اقتصادية تجعل من هذه الأصول موارد ومحركات لعجلة التنمية، فهل حان الوقت لتوظيف الأصول الاجتماعية كأحد الأذرع التنموية لتحقيق التنمية الوطنية المنشودة؟ في البدء تعالوا نتعرف على مصطلح الاقتصاد الاجتماعي الذي يعد من المسارات التنموية الحديثة والمعاصرة، وتعد دول الاتحاد الأوروبي من رواد هذه المدرسة الفكرية التي تنتظر إلى المتغيرات الخارجية على أنها اتجاهات تغير عالمنا بسرعة غير متناهية، وتجلب فرصًا جديدةً للمجتمعات والاقتصادات ولكنها أيضًا تفرض تحديات جديدة، وتحثنا على عدم انتظار المستقبل، والاستباق في صناعته ولكن بشكل تشاركي مع جميع فئات المجتمع، وبالتركيز على كل مقوماته وجعلها جزءًا من الممكنات الاستراتيجية لإيجاد الحلول المستدامة للتحديات الكبرى التي تعترض التنمية، وعلى نحو مماثل لأشكال الاقتصاد الأخرى، يتكون الاقتصاد الاجتماعي من مجموعة متنوعة من المؤسسات والهيئات ومختلف أشكال الهياكل الأخرى مثل التعاونيات والجمعيات والفرق التخصصية، ولا يعمل الاقتصاد الاجتماعي في معزل عن القطاعات الاقتصادية الأخرى ولكنه يوفر الدعامة التكميلية لأدوار هذه القطاعات من خلال أدوات الابتكار الاجتماعي.

فإذا أسقطنا هذه المبادئ على الواقع التنموي الراهن ستتجلى بوضوح الحاجة إلى إدماج الابتكار المجتمعي في عمق الابتكارات التقنية والتكنولوجية التي لا يمكنها لوحدها الخروج بحلول مستدامة وذات أبعاد إيجابية على المدى الطويل، وهذا ما يفرض على المؤسسات الرسمية ومختلف فئات المجتمع العودة إلى الأصول الاجتماعية غير الملموسة لتوظيفها في معالجة التحديات المعاصرة، وهذا لا يتأتى سوى بتبني النهج الشمولي المتكامل في التعاطي مع ملفات العمل التنموي، وذلك بتضمين الجوانب الاجتماعية في أولويات العمل الوطنية حتى وإن بدت ظاهريًا بأنها موضوعات علمية واقتصادية بحتة، فعلى سبيل المثال تؤكد تجربة المفوضية الأوروبية بأن التداخل البيني بين التحديات العلمية والممكنات الاجتماعية يخلق فرصا استراتيجية في الخروج برؤى جديدة ومبتكرة في إدارة هذه التحديات، وذلك كما ظهر في محور مكافحة تغير المناخ الذي يحتل الصدارة في أجندات العمل الإقليمية، إذ أثبت واقع التنفيذ بأن الاقتصاد الاجتماعي يؤدي دورًا رائدًا في دعم الاقتصاد الدائري الذي يمثل الممكن الرئيس في حل هذا التحدي العالمي، حيث تمثل ركائز الابتكار المجتمعي حجر الزاوية في مبادرات إعادة التدوير وإعادة الاستخدام، وذلك من منظور إدماج قيمة حب الطبيعة وتمكين الاتجاهات الإيجابية نحو كوكب الأرض لحماية حقوق الأجيال القادمة، وإشراك ذوي الإعاقة في تعزيز المبادرات الصغيرة والمتوسطة في الاستهلاك الواعي والمستدام، ودعم الجهود الحثيثة التي تقودها الحكومات نحو إحلال الطاقات المتجددة، والنهوض بالزراعة المستدامة والتنمية الريفية، والبحث عن الفرص الكامنة في هذه المبادرات من أجل توظيف الشرائح المجتمعية المهمشة التي لم تكن تحلم يومًا بالحصول على حصة في سوق العمل، واستطاعت هذه التجربة تحقيق الأهداف الاستراتيجية التي كانت تطمح إليها بالإضافة إلى العوائد الاجتماعية الإيجابية.

وتكمن أهمية الاقتصاد الاجتماعي الذي صار أحد أهم دعائم الجهود التنموية المحلية في مختلف دول العالم، وكذلك أهم ممكنات تحقيق التنافسية الدولية في قدرة هذا الاقتصاد على خلق فرص عمل غير تقليدية ولائقة للجميع، من خلال ذراعيه التنفيذيين وهما الابتكار المجتمعي وريادة الأعمال التشاركية، فمن خلالهما يتم فتح فرص العمل للمبتكرين وكذلك حاملي المعرفة والقيم والسمات المجتمعية التي يمكن توظيفها في المبادرات العلمية والاقتصادية الكبرى، واكتساب القيمة من إمكاناتها غير المستغلة، وتوظيف رأس المال الاجتماعي لتحقيق المنفعة المشتركة، وتعد جائحة كورونا إحدى كبريات نقاط التحول التاريخية الكبرى في حياة البشرية التي برهنت على ضرورة الالتفات إلى ما يسمى «البعد التضامني» في الاقتصاد والتنمية اللذين هما ليسا مسؤولية القطاعين الحكومي والخاص لوحدهما، ولكن هناك فجوات لا يملؤها سوى المجتمع المدني بكافة مؤسساته وأطيافه، من منظور دعم اللامركزية في الاقتصاد، وتحسين أدائه وتعزيز التماسك الاجتماعي وإدماج شرائح واسعة من المجتمع.

فإذا أخذنا السمت العماني مثالا لأهم الأصول المجتمعية الاستراتيجية فإنه يمكن توظيفه كمدخل للاقتصاد الاجتماعي من خلال وضع خريطة القيمة، ومسارات توظيف ما تحويه مجموعة القيم والمعتقدات والسلوكيات والمعايير المجتمعية في العمليات الاقتصادية، فإذا كان الإتقان وحب العمل من ضمن السمات العمانية الأصيلة فإنه يمكن المحافظة عليها بشكل مستدام إذا تم اقترانها بتوظيفها كمدخل اقتصادي وليس الاكتفاء بالتوعية بأهميتها في سياق أخلاقي فقط، وكذلك يمكن توجيهها إلى مختلف مسارات الصناعات الثقافية الإبداعية التي تقوم بدورها في تعميق أهميتها من خلال إبراز دورها في دعم الاقتصاد الاجتماعي من خلال ديناميكية ابتكارية تساهم في إدماج الشرائح الأكثر تأثيرًا مثل الشباب، وذوي الإعاقة، والموهوبين، وذلك في إطار تحقيق مكتسبات مشتركة، وهذا ينطبق على جميع الأصول الاجتماعية الأخرى.

إن المحافظة على الأصول الاجتماعية وتأطيرها في الاقتصاد الاجتماعي هو مطلب تنموي بالغ الأهمية، فالتوعية لوحدها ليست كافية وإنما علينا أن نوسع من دائرة التأثير، وذلك بإدماج مبادئ الاقتصاد الاجتماعي في الفكر التنموي، ووضع مسارات عمل متوازية في القضايا الأكثر إلحاحًا مع تعزيز الابتكار الاجتماعي كمصدر أساسي لتحقيق القيمة المضافة لجهود العمل الحالية، وتعزيز البعد الريادي، وإتاحة الدعم من خلال وضع الاستراتيجيات والأطر المنظمة، والبحث عن الميزة التنافسية المحلية للأصول الاجتماعية، والاستفادة من الفرص التي تتيحها التكنولوجيا المتقدمة، والتعلم من التجارب الدولية في مجالات الاستثمار في الأصول الاجتماعية، وذلك من أجل تعزيز التنمية والاستفادة من الإمكانات الكاملة للاقتصاد الاجتماعي مع الفهم والإدراك بأنه في الأساس لا يعد الاقتصاد الاجتماعي قطاعًا مستقلاً في حد ذاته، ولكنه نظام اقتصادي يقوم على القيم المجتمعية ذات القدرة على المساهمة الإيجابية في تمكين مختلف قطاعات وأنشطة الاقتصاد الوطني.