الأشياء .. بين قيمتها المعنوية وتكلفتها

28 أغسطس 2022
28 أغسطس 2022

يتسع المعنى كثيرا في شأن تقييم الصورة التي يحملها مفهوم "القيمة والتكلفة للأشياء" فالأوطان - على سبيل المثال - على اتساعها قد تضيق؛ في ظروف مختلفة غير طبيعية؛ على سكانها؛ كظروف الاحتلال، وظروف الأنظمة القمعية، وظروف الفئات المتسلطة على مقدرات الوطن، وظروف عدم قدرة الوطن نفسه على تلبية الاحتياجات الأولية لبقاء المواطن في حيز جغرافي ما، وهذه كلها تندرج تحت قائمة التكلفة المباشرة، وتأثيرها زمني، ومباشر أيضا؛ حيث لا يمكن المراهنة على الزمن لإحداث التغيير، ولكن مع ذلك تظل الغالبية من المواطنين باقية، بقوة الإيمان الذي يحملونه لقيمة الوطن، فالوطن في نظرهم أكبر من مجموعة من الخدمات التي يقدمها في زمن ما، وإن كانت فرض عين على الوطن لمواطنيه، ولكن النفوس تتجاوز هذا العطاء المادي المباشر، وتتسامى للعائد المعنوي الأكبر، وهو القيمة الموضوعية لمفهوم الوطن في مكونيه المعنوي والجغرافي، حتى وإن لاقت ما لاقت في سبيل هذا الالتحام الذي يرقى إلى القداسة، فالوطن مفهوم مقدس يتجاوز البعد المادي، وإلا لرأينا الشعوب التي احتلت أوطانها بغير حول منها تركت أوطانها وفرت هاربة، وفي سبيل هذا الانتماء، وفي سبيل هذه الحمولة المعنوية لمفهوم الوطن تتعزز القيمة المعنوية للوطن، لليقين الموجود أن الأوطان لا تعوضها أوطان بديلة، وإن استطاعت الأوطان البديلة أن تحقق شيئا من الرفاه "التكلفة" في زمن ما من لحظات التاريخ التي يغرق فيها الوطن الأصل، وفي هذا السياق؛ هنا مقولة رائعة لزعيم النازية أدولف هتلر: "إن مشاعر الجمهور وعواطفه ليست كلها ثابتة مستقرة، فما يراد إقامته على أساس ثابت يجب أن يرتكز على إيمان الشعب وتعصبه للمبدأ أو الفكرة التي يراد الدفاع عنها. فالإيمان أقوى على الصمود من العلم. والمحبة أقدر على الاستمرار من التقدير (...)" – انتهى النص – حيث ينظر إلى التقدير هنا على أنه تكلفة مادية، لا ترقى لأن تتوازى مع القيمة المعنوية للمبدأ، والوطن هنا مبدأ بامتياز.

هناك تناص شديد القرب؛ وفق هذه الرؤية أيضا؛ بين الرغبة والحاجة، وهو لا يخرج أيضا عن السياق الثقافي لذات الفهم، وقد نظر إلى الرغبة على أنها تولد الشراهة – كما يرى فيلسوف الهند (غاندي) – بينما الحاجة تولد الاكتفاء، وثمة فارق نوعي بين الشراهة والاكتفاء، وهو ذات التناص بين القيمة والتكلفة للشيء الواحد، مع أن القيمة تحمل بعدا نوعيا وفلسفيا في ذات الوقت، بين تذهب التكلفة إلى التجريد المباشر، فتكلفة الكرم؛ على سبيل المثال؛ هي مجموعة المواد الغذائية التي يتم تقديمها للضيف الزائر، ولكن القيمة المعنوية لمفهوم الكرم يأخذ معاني كثيرة عميقة، ومهمة، ومتجذرة في الذاكرة الاجتماعية؛ حيث تتداخل معها مجموعة من القيم الحاكمة أو الضابطة بين المضيف وضيفه، وبالتالي فعندما تحضر مفردة "الكرم" على هذه الذاكرة، فإن المخيلة تذهب إلى مجموعة من المواقف التي حدثت طوال تاريخ الكرم، ومكانته وأهميته عند الناس؛ بما في ذلك الشخصيات التي أرخت بالفعل والقول لكلمة الـ "كرم" - كما هو حاتم الطائي؛ على سبيل المثال - وقد يقع مفهوم الكرم في مأزق صراع الأجيال، حيث يخضع للثقافة السائدة في العصر الذي يمارس فيه كفعل متبادل بين أبناء المجتمع، ولذلك عندما يُعَصِّبْ الكبار اليوم، ينفون أن ما يحدث من ممارسات الكرم اليوم هو الكرم الحقيقي، لاختلاف الممارسة والأدوات المستخدمة؛ حيث انتقلت القيمة إلى التكلفة، ولم تعبر التكلفة عن القيمة الحقيقية للكرم (هذه وجهة نظر) لمن عايش الممارسة في عصر سابق.

عندما تزور دولة ما؛ تحسبها فقيرة؛ وفق التصنيف الدولي (فقر/ غنى) وتتجول في أسواقها التقليدية أو الحديثة، ينتابك شعور بأنه قد غرر بك، في رسم صورة الفقر لهذه الدولة، أو ذاك الشعب، بل قد تجد نفسك محرجا أمام كثير من أبناء هذه الدولة عندما تكون عند محطة الصراف أو المحاسب، فكمية النقد التي تكون عند فرد ما من مواطني هذه الدولة؛ في تلك اللحظة؛ تضعك في حالة من الذهول، ولا تجد تفسيرا واضحا لما تشاهده، وبالتالي ستخرج بقناعة مفادها أن مواطني هذه الدولة إما أنهم تجاوزوا مفهوم الفقر بمزيد من الفقر، وهو السقوط أكثر في متون الديون، حيث وقعوا في فخ التسهيلات التي تقدمها المصارف، وإما أنهم نظروا إلى التكلفة على أنها تحقق لهم قيما معنوية أخرى، من خلال امتلاك ما يمتلكه أصحاب الدخول المالية الكبيرة، وبالتالي تحضر التكلفة المادية لما يودون اقتناءه على أنها جزء من القيمة المعنوية التي تحقق لهم الكثير من الكمية من الأدوات التي يجب أن يتملكونها كالهواتف النقالة الحديثة، وأجهزة الحاسب الآلي، والأجهزة الكهربائية المتقدمة، والكثير من الأدوات المنزلية التي تعكس أن لهذه الأسرة ذوقا راقيا، متجاوزين بذلك العبء المادي المتمثل في "التكلفة" فالتكلفة حاصلة في كل الأحوال، بينما القيمة المعنوية من شأنها أن تتقادم، ولا تجد لها الحافز المعنوي في النفس، خاصة مع مرور الأيام حيث تشعر النفس بأنها عاجزة عن تحقيق ما تود تحقيقه، فتنكفئ على ذاتها، وقد تدخل نفسها في هموم، وعدم الرغبة في حياة لا تحقق كل ما تود النفس تحقيقه، فيفقد قيمته كإنسان يسعى لأن يكون له مساحة واسعة لاقتناء ما يريد؛ فتتضاءل القيمة المعنوية للأشياء عنده.

يؤكد مفهوم "فخ الرفاهية" الذي أشار إليه الكاتب يوفال نوح في كتابه (العاقل - تاريخ مختصر للنوع البشري – (مترجم)) أن الناس واقعون في مأزق الفهم الذي تمثله القيمة من ناحية، والتكلفة من ناحية ثانية، فمن طبيعة الأشياء أن جميعنا يسعى إلى هذه الصورة الاحتفالية الزاهية "الرفاهية" ومن منا لا يريد الرفاهية؛ فهي مطلب شديد الإلحاح في أجندة كل فرد فينا، بلا جدال، ولأن الرفاهية أدواتها مادية بحتة، ومباشرة؛ فإن لتحققها تكلفة ثقيلة، ليس من اليسير الوصول إليه في غمضة عين، حيث تحتاج إلى كثير من المجاهدة في سبيل تحقيق المال المؤدي إلى تحققها، وليس لها إلا المال؛ فلو حصل أي فرد على أعلى الشهادات العلمية (كقيمة معنوية) فإن ذلك لن يغنيه عن ضرورة تحقق منزل كبير وواسع يحمل بين جنباته كل أدوات الرفاهية، ومركبة فارهة، ومكانة اجتماعية مرموقة، والقدرة على السفر إلى أي بقاع العالم، وحجز التذاكر في درجات رجال الأعمال، وغيرها من المظاهر، فهذه الصور كلها؛ تعكس قيمة معنوية "احتفالية" مغرية للرفاهية؛ ولكنها؛ في المقابل تحتاج إلى تكلفة مادية كبيرة، قد تؤدي بهذا الفرد الباحث عن الرفاهية إلى أن يغرق في مستنقع كبير من الالتزامات المادية، دون أن ينتبه لذاته التواقة إلى العيش في هذه البيئة الحالمة "الرفاهية".

يرى الكاتب جون إهرنبرغ؛ مؤلف؛ المجتمع المدني – التاريخ النقدي للفكرة – (مترجم): أن "الناس لا يتبعون القواعد الخلقية إلا إذا لبت حاجاتهم المباشرة"- انتهى النص - فلا يكفي أن يكون لك صديق؛ وفق رؤية (جون ...) إن لم يقم هذا الصديق بالتضحية بأشياء ملموسة تكون في يد الطرف الآخر، والمعنى يحتمل التوسع، فلا تكفي الجماعة التي تنتمي إليها أن تكون الحاضنة؛ كبيئة العمل، أو بيئة ثقافية، أو بيئة وجاهية، فهي هنا في مختلف هذه التموضعات البيئية تحمل قيمتها المعنوية فقط، وبالتالي إن لم تقدم تكلفة مادية لأعضائها؛ فإن لهؤلاء الأعضاء كلهم يبقى الخيار أمامهم متاح لأن يبحثوا عن حاضنات أخرى يكون لها القدرة أن تقدم ما هو له تكلفة مباشرة يلمسها جميع الأعضاء، وقد قال أحدهم: "قريبك من قرب منك خيره، وابن عمك من عمك بنفعه، وإن عشيرتك من أحسن عشرتك، وإن أحب الناس إليك أجداهم بالمنفعة عليك" وهذا جزء من المنطق أيضا، ولا يوجد فيه تحميل المعاني فوق ما تحتمل.