الأزمات.. ليست وليدة الساعة

26 يونيو 2022
26 يونيو 2022

طالما وجد الإنسان، وجدت التحديات، وهذه التحديات قد تكون فارضة نفسها بفعل مجريات الحياة اليومية، وتطوراتها المختلفة، والتي لا تقف عند حد معين: زيادة عدد السكان، وتقلص المصادر، وتصدير الأزمات بين الدول والشعوب، وتجدد الحروب، وتجدد الأمراض "الكونية"، وحالات الجدب المستمرة في قلة سقوط الأمطار، وغير ها من التحديات التي تظهر فجأة غير محسوب حسابها، وقد تكون انعكاسات لأخطاء في الإجراءات التي تقوم بها الجهات المعنية بمسؤوليات التنمية المختلفة: إما لضعف الإدارات "عدم وجود تخطيط واضح" أو لضعف الكفاءات "لضعف التأهيل" أو عدم استخدام التقنيات، حيث استخدام الأدوات التقليدية، فالرؤى مهما وصلت إلى مستويات متقدمة من الدقة، ستظل هناك جوانب أخرى غير متوافقة بالدقة لما يخطط له، ولما يعمل في شأنه، وهذا لا يعني أن مجموعة الإجراءات الفنية التي تتخذ للحد من التحديات ليس لها تأثير ما، بل لها تأثير، ويجب أن تكون حاضرة، في ذهنية المخطط دائما وأبدا.

تتجذّر الأزمات في أحوال كثيرة فـ"معظم النار من مستصغر الشرر" ومن هذه الأحوال سوء التخطيط، وعدم الاهتمام بمعالجة الأسباب الصغيرة المؤدية إلى حدوث أزمة، ومن هنا تأتي أهمية أن تكون هناك عيون ناقدة، لمختلف الأوضاع سواء على المستوى الشخصي أو المستوى العام، فكل واحد منهما يشكل أهمية غير منكورة على مستوى المهام والمسؤوليات، وهذا يعني أن المسؤولية الفردية لا تقل أهمية عن المسؤولية المجتمعية، وهذا التجذر مبدأه ومنتهاه هو التسويف، والتأجيل، واللامبالاة، وهذه الممارسات من أسوأ ما تبتلى بها الإدارات في كل زمان ومكان، ولذلك فوجود القرار، ولو يكون في حالة ارتجال، في بعض الأحيان يبقى مهمًا جدا، ويمثل قيمة مضافة في حل الأزمة الناشبة، وخاصة الأزمات المفاجئة، فـ"لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد" هذه حقيقة مهمة، ولو استوعبها الجميع، لتم تحجيم الكثير من الأزمات قبل أن تستفحل "فتهلك الحرث والنسل".

ينظر إلى المؤشرات بكثير من الأهمية، وهي متعددة، قد تكون مؤشرات تعكسها الأرقام سواء نموا أو انخفاضا، فكلا المستويين يشكلان مقياسا معينا للنمو أو للانخفاض، وقد تكون مؤشرات تعكسها مجموعة من الظواهر الاجتماعية، سواء في تعدد إفرازات الظاهرة الاجتماعية، أو في تنوعها، أو في تأثيراتها الأفقية أو العمودية، وقد تكون مؤشرات تنموية، حيث يقاس ذلك على مجموعة البرامج المقدمة من قبل الجهات المعنية في مجالات التنمية المختلفة، فهذه البرامج هي لحالها مقياس مهم للتطور أو للتخلف، وذلك من خلال ما تستخدمه من موارد من ناحية، ومن خلال ما تستخدمه من أدوات لتنفيذها من ناحية أخرى، أو من خلال مؤشرات تكرار الأخطاء في مجالات معينة بذاتها، أو في مجملها، وقد تكون مؤشرات تعكسها حركة السكان ومستوى تصادماتهم واختلافاتهم اليومية، وهذا النوع من المؤشرات مرتبط كثيرا بالمسألة الثقافية، وهي متعددة قد تكون سببها التعليم، وقد تكون سببها الجوانب الدينية، وقد تكون سببها العرقية، وقد تكون سببها الجندرية، وقد تكون سببها القيم التي يؤمن بها أبناء المجتمع، وقد يكون سببها عدم تحقق العدالة بين أفراد المجتمع الواحد، وقد تكون مؤشرات واردة من خارج الحدود، فكثير من الدول تحاول تصدير أزماتها إلى خارج حدودها، وتتقصد الدول الضعيفة والمغلوبة على أمرها، لتنفيذ أجنداتها القذرة، لتوجد مبررات مختلفة للتدخل في شؤون هذه الدول (سياسة فرض الأمر الواقع) ولا مجال لتغاضي الطرف عنها، فهذه المؤشرات جميعها تأخذ حيزا من الاهتمام لدى المخطط، فينزلها منزلة الاهتمام المطلق، ولا يجب أن يراهن على أي تأخير، فالزمن سيف حاد لا مجال فيه للتسويف، أو المماطلة، فتأخير حل أزمة ما، من شأنه أن يتسبب في نشوء أزمات جانبية غير متوقعة، وقد يتوسع الأمر إلى كوارث.

يعول على التخطيط الاستراتيجي على أنه الضامن لتفادي الكثير من الأزمات التي قد يتعرض لها الفرد أو المجموع، فالمسألة في هذا الجانب ليست مقصورة على الحكومات كما هو الشائع دائما، وإنما هي تشمل الجميع، في شأن استحضار مفهوم التخطيط، سواء أكان هذا التخطيط استراتيجي "بعيد المدى" أو تخطيط مرحلي "قصير المدى" وتأتي هذه الشمولية في ضرورة وجود التخطيط في الحياة العامة أو الخاصة، لأن الأزمات ليست مقصورة على فترات زمنية معينة أو جغرافيات محددة، أو هي خاصة بالحكومات، أو هي خاصة بالأفراد، وإنما الجميع معرض لأن يقع في أزمة ما، صغيرة أو كبيرة هذا شأن آخر، صحيح قد تكون هناك مؤازرات قد تتم للتخفيف من وقع الأزمات، ولكن هذه المؤازرات لها ثمن سيدفع عاجلا أو آجلا، سواء على مستوى الفرد، أو مستوى الحكومات، وبالتالي وللخروج من مأزق الدفع هذا، والذي قد يكون قاسيا يحل التخطيط للتخفيف من وقع الأزمات، ويعفي صاحب القرار من مآزق الاتهام بالتقصير، على سبيل المثال، فوق أن التخطيط يوقف بلا شك النزيف الذي سوف تسببه الأزمة في حالة نشوئها على الواقع، من حيث تكلفتها الباهظة في المعالجة بعد ذلك.

تتعدد الأزمات بين سياسية، واقتصادية، وثقافية، واجتماعية، ولكن أكثرها شيوعا أزمتان: الاقتصادية، والسياسية؛ وغالبا ما تكون إحداهما سببا في الأخرى، فهناك ارتباط موضوعي بين الأزمتين، والحياة منذ نشأتها الأولى قائمة على مجموعة من التموضعات فيما يخص هذين الأمرين المهمين في حياة الفرد العادي، وفي حياة الشعوب مجتمعة، فكم من الحروب التي قامت سببها أحد عناصر الاقتصاد، وكم من أزمات اقتصادية تكونت في محيط جغرافي، أو حتى على مستوى العالم، سببها أن حربا قامت بين طرفين، أو عدة أطراف، وفي كلا الأمرين هناك تداعيات خطيرة تتحملها كثير من الأطراف عبر امتداد البقعة الجغرافية، وقد يأتي عنصر واحد فقط فيسبب أزمة عالمية خانقة، كحال النفط، الذي يعلي من سقف الأزمات التي تنشأ بسبب تنازع القوى من أجله، كما يعلي موازنات الدول، أو يسقطها إلى مستويات دنيا فلن تعد قادرة على القيام بالتزاماتها المادية لتحقيق برامج التنمية في بلدانها، فدول العالم قاطبة معتمدة عليه في مختلف مشروعات التنمية في بلدانها، وإن تعددت مصادر هذا النفط، فإن ذلك لا يلغي الأهمية العالمية له في كل بقاع العالم، ولذلك أنشئت له منظمة عالمية خاصة به -المنظمة المصدرة للنفط "أوبك"- ترعى مسارات تذبذب أسعاره المختلفة في كل حين، حتى لا تقع الدول، سواء المنتجة له، أو المستهلكة له في مأزق أزمة تنزلها إلى الحضيض في أي لحظة، طبعا هذا الأمر لا ينفي أن أزمة الغذاء العالمي هي الأخرى لا تقل حدة من أزمة النفط، ولكن قد تكون للأولى "النفط" حلولا للثانية، وليس العكس، والأزمات الصحية هي الأخرى لا تقل أهمية عن مثيلتيها، حيث تفتك بالأرواح والنفوس فتكا لا تنفع معه كثير من الحلول في وقت الذروة، كما حدث مع الأزمة الأخيرة التي سببتها جائحة كورونا "كوفيد-19" التي تقصت بلدان الكرة الأرضية من المحيط إلى المحيط.

يبقى؛ دائما؛ للأزمات تأثيرات جانبية، حتى وإن تموضعت في محيطها الزمني، أو الجغرافي، أو الفردي، أو المؤسسي، لأن الكل يتعامل مع الكل، ولا توجد فواصل بينهما إلا بقدر الاختصاص، ولذلك الجميع يتأثر بفعل نشوء أزمة واستمرارها، إن لم يسارع إلى حلها، وإنهاء وجودها من الأساس، ولذلك قد يرى البعض أن البعيد يبقى بعيدا بكل أزماته وإخفاقاته، وهذا الأمر ليس صحيحا إطلاقا، وهناك مثل قديم نصه: "إذا رأيت جارك يحلق رأسه، فبل رأسك -أي غسله-"، لأن الدائرة قادمة إليك، أردت ذلك أو لم ترد، وهذا واقع معاش، ولا يحتمل المناورة، أو الاختلاف.