الـ "هدية الديموغرافية" .. وأثرها الفاعل في التنمية

03 أبريل 2022
03 أبريل 2022

ينظر إلى الحالة السكانية بكثير من الاهتمام، على اعتبار أنها المقياس لمؤشرات التنمية في كل البلدان، وهذا المقياس يذهب إلى كثير من مناخات هذه الحالة؛ سلبا أو إيجابا، وما تنتجه من إفرازات اجتماعية على مستوى الفرد "الأسرة" ومستوى الجمع "الدولة"، والحالة السكانية كتلة واحدة ينظر إليها بخصوصياتها مجتمعة، وما تتطلبه من استحقاقات لبلورة شخصيتها مجتمعة، فهي لا تقبل التجزئة، ويأتي هذا التجذر من حيث النشأة الأولى؛ وهي الأسرة المؤسسة لها، وعندما توصف بـ "الحالة السكانية" فإن هذا الوصف يذهب إلى حيث مجموع التغييرات المصاحبة لها طوال خط مسيرتها الإنسانية، فهي خاضعة لعمليات التأثر بصورة كبيرة، ولذلك يحدث فيها التغريب، والتقليد، والتبدل والتغيير، ففي التعامل معها يحتاج إلى كثير من التعقل، ومن الحكمة، وذلك للحفاظ على ديمومتها وفق أنساق اجتماعية محددة في كل مجتمع إنساني، معبرة هذه الأنساق عن قيم المجتمع، وعاداته، ومثله، الحاضنة لمختلف الأنشطة الإنسانية، ولذلك تحتل الحالة السكانية في كل الدول أهمية كبيرة، في كل مجالات التخطيط الاستراتيجية على وجه الخصوص، وهي كل المجالات التنموية، ويأتي مجالا الاقتصاد والاجتماع كأهم حاضنتين للحالة السكانية، مع عدم إغفال بقية المجالات الأخرى، فالسكان هم عصب حياة الدول بلا مناقش، ومتى أعطيت هذا الجانب الكثير من الأهمية، كان ذلك رافدا مهما من روافد التنمية.

يؤخذ مسمى الـ "هدية الديموغرافية" من الحالة السكانية، وذلك عندما تكون الفئة القادرة على العمل، والمحصورة ما بين السن (15 -64) – حسب تحديد صندوق الأمم المتحدة للسكان – من مجموع السكان أكثر من الفئات التي تحتاج إلى عائل حيث تكون هذه الفئة في قمة عطائها خلال هذه الفترة، وهي الفئة المحتلة واسطة العقد الاجتماعي، فالفئات بين طرفيها تحتاج إلى معيل، كما هو معروف، ولذلك فأعباؤها كثيرة وعميقة، ومن يتابع هذا الجانب يجد أن كل المجتمعات يفترض أن تتدفق عليها الهدايا الديموغرافية؛ لأن كل المجتمعات أيضا عندها مستوى الخصوبة عاليا، إلا إذا كانت هناك حالات استثنائية تحول دون تحقق ذلك، أو تؤخره لفترة زمنية ما، كما هو في حالات الحروب، أو الكوارث الطبيعية الكبرى التي يروح ضحيتها عشرات الآلاف من السكان، أما بخلاف ذلك وعندما يكون الأمر طبيعيا فإن الهدايا الديموغرافية تظل تتدفق لتعزز مستوى الحالة السكانية، يبقى هنا الاستثناء الوحيد؛ عندما يتدخل الإنسان نفسه بإرادته الكاملة للحد من هذه الهدايا الديموغرافية، وهي حالة تحديد النسل، أو تنظيمه، وهذا فعل تتحقق فيه الإرادة الكاملة، وفي هذه الحالة يتم القفز على التسلسل الطبيعي للنمو السكاني، وخطورته؛ في تقديري الشخصي؛ أشد من خطورة التدفق السكاني (الانفجار السكاني) كما يطلق عليه، لأن "العائد الديموغرافي" – كما هي التسمية لدى صندوق الأمم المتحدة للسكان – لن يتحقق في ظل التدخل للحد من التدفق السكاني، بل بالعكس يكون لذلك نتائج سلبية كثيرة على الدول، وأقلها المنافسة غير المتكافئة بين القوى العاملة الوطنية، والقوى العاملة الوافدة، في الدول ذات الكثافة السكانية القليلة، ونتائج ذلك الكثير من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية على حد سواء، حيث تعاني الدول المستضيفة من التدخل المباشر في سياساتها التنموية من قبل الدول الأم للقوى العاملة الوافدة، فتعزز موقفها بالكم الكبير من أبنائها في البلد المستضيف، فوق أن العمالة الوافدة تحدث خلخلة في كثير من سياقات الحالة السكانية في البلدان، وخاصة تلك البلدان التي تمثل فيها العمالة الوافدة نسبا مرتفعة فوق ما هو متوقع، أو فوق ما هو مقبول، سواء في المناقسة غير المتكافئة على ما هو متاح من مجالات العمل، أو سواء في البنى التركيبية السيكولوجية، لما تحمله من قيم وسلوكيات ناقلة ذلك من موطنها الأم، وما ينتج من عمليات التأثر والتأثير، وفي حالة حصول عمليات التزاوج، تبدو التأثيرات أكثر وضوحا، وتزداد حالة التغريب أكثر وأكثر.

السؤال هنا أيضا، كيف تقيم مساهمة الهدايا الديموغرافية في عمليات التنمية؟ وما أثر استمرار تدفقها على المدى البعيد؟ هذه المسألة تخضع لاعتبارات كثيرة، يأتي في مقدمتها مدى وضوح الرؤية في توظيف هذا الكم الهائل من التدفق السكاني الكبير في دولة ما، لأن لهذا التوظيف استحقاقات أولية لا يمكن تخطيها أو حرق مراحلها، حيث تبدأ منذ الأعمار الصغيرة جدا لكل أفراد الدولة، وفي مقدمتها التعليم، والتأهيل، ووضع الخطط الكفيلة باستيعابها قدر الإمكان، وتوظيف طاقاتها الإبداعية الهائلة، وعدم وضعها في موضع المنافسة مع القادم من الخارج، أو حتى التفكير في المفاضلة بينهما؛ وخاصة في مراحل العطاء، فالاستحقاق الوطني يبقى الأصل لأي مفاضلة أخرى، وإن يحدث ذلك يكون للضرورة، وفي مجالات محدودة جدا، ولفترة زمنية قصيرة.

يمثل التدخل في الحد من تنامي الهدايا الديموغرافية عائقا كبيرا لمجالات التنمية المختلفة، وهذا التدخل يكمن في الحد من الإنجاب أو تنظيمه؛ كما هو التعبير الناعم، لهذه المسألة، ففي كثير من تجارب الدول التي تدخلت في هذا الجانب واجهت واقعا صادما بعد دخول الجيل الأول مرحلة ما بعد الشباب، حيث وجد في أن الفاقد كبير، وأن الرافد لا يفي بمتطلبات التنمية، مما استدعى سياسات تلك الدول إلى التراجع عن الأخذ بمسألة تنظيم النسل، إلى تشجيعه، وحتى تصل هذه الدول إلى الاكتفاء الذاتي أو إلى نسب قريبة منها؛ استدعى ذلك الاستعانة بقوى عاملة بشرية من الخارج، ويقينا؛ ستكون التكلفة باهظة الثمن، في كل الجوانب من جوانب الوطن، ولن تحل القوى العاملة البشرية الوافدة؛ بأي حال من الأحوال؛ محل القوى البشرية الوطنية، وخطورتها في استمرار تدفقها على المدى البعيد، وعدم آليات تنظيمية لمسألة الإحلال المنظم وفق خطط مدروسة وموقوتة بأزمان محددة.

تأخذ الحالة السكانية حساسة مفرطة عندما يكون مجموع السكان "الوافدين" أكثر من السكان الأصليين، أو متساوية معها؛ إلى حد قريب، ومنبع هذه الحساسية هي مستوى المنافسة؛ غير المتكافئة؛ بين الطرفين، لأن القادم سيكون أكثر تأهيلا، وأكثر خبرة من التي اكتسبها من بلده الأم، وأقل راتبا؛ في الغالب، مع الأخذ في الاعتبار مع بعض الاستثناءات، ومن يأتي من فئة الـ "خام" فهي الفئة العمالية البسيطة فقط، والتي غالبا لن تشكل حالة تنافسية مع العمالة الوطنية، خاصة مع البدايات الأولى لأعمار التنمية في البلدان المستضيفة، وتأخذ هذه الحساسية توهجها وتفاعلها مع بقاء هذه العمالة الوافدة فترة أطول عما هو متوقع، فاحتساب (30) ثلاثين عاماً؛ على سبيل المثال؛ يعد فترة قياسية لتموضع العمالة الوافدة في بلد ما، على افتراض أن من كان في عمر السنة الأولى مع حلول هذه العمالة المستضافة قد بلغ هذه السن، وهي السن المؤهلة لابن الوطن أن يقوم بكافة الأدوار المنوطة به في مجالات التنمية المختلفة، هذا إذا كانت هناك رؤية استشرافية معدة لما قبل هذه الفترة الـ (30) سنة، حيث تجني الخطة استثمارات في هذا المجال بعد هذه الفترة، أو قبل حتى إذا كانت هناك جدية حقيقية في احتسابات الخطة التنموية البشرية؛ على وجه الخصوص، أو على اعتبار تراكم الخبرة والمعرفة لدى الأجيال، وقدرتها على الإحلال بصورة طبيعية، دون تدخل ميكانيكي من الجهات المعنية بالحالة السكانية.

هناك ترابط كبير بين الحالة الاقتصادية في الدول، وبين الحالة السكانية؛ من حيث النمو الاقتصادي وتراجعه، ومن حيث القوى العاملة الوطنية، وأثر ذلك على العائد الاقتصادي للدولة، لأن الحالة السكانية هي العمود الفقري للاقتصاد، فهي المعززة لوجوده، وهي الفاعلة في مختلف مفاصله، وهو القائم عليها أكثر، وبالتالي متى نظر إلى أهميتها في تعزيز الاقتصاد، كان ذلك نظرة استباقية لمآلات الحالة الاقتصادية للفترات الزمنية القادمة، من أعمار التنمية في أي بلد، ومن هنا تأتي أهمية وضع الاستراتيجيات والخطط التنموية الخاصة بالسكان، ووضع مؤشرات ضابطة لهذا النمو في جوانبه المختلفة: معرفية، اجتماعية، ثقافية، سياسية، اقتصادية، لأن الأمر يأخذ بعدا ذا أهمية كبيرة، فهو متعلق بمستقبل وطن بأكمله، وذاهب بهذا الوطن إلى تحقق وجوده، وقدرته على المنافسة، وتقديم صوته كواحد من الأوطان التي تحضر بثقلها السكاني، ومستوى المنجز الذي يحققه هذه الثقل في كل المجالات (ولولا رهطك لرجمناك) – (91) من سورة هود.

* أحمد بن سالم الفلاحي