استنبات القيمة الاجتماعية

26 نوفمبر 2022
26 نوفمبر 2022

كمختص في علم الاجتماع لا يمكن تجاوز الثورة النظرية التي أحدثتها مؤلفات عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان وخاصة "مجموعة السيولة" كما هي دارجة في أوساط المختصين، والتي تشير إلى مؤلفاته التي ناقش فيها تحولات المجتمع والأخلاق والسلطة في عصر ما بعد الحداثة مصطلحًا ذلك باسم "الحداثة السائلة". في تقديري تنبع القيمة المركزية لأطروحات باومان من ثلاث نقاط جوهرية: أولها أنه يكشف لنا الجوانب التي مست المجتمع الإنساني – على حد سواء – وصدرت ذاتها عبر الحدود. وثانيها أنه يكشف لنا ما بات خارج السيطرة، سيطرة المؤسسات المجتمعية، وسيطرة السلطات الثقافية والفكرية، وسيطرة التوقع والتنبؤ الاجتماعي. أما ثالث تلك الجوانب فهي في القدرة المنهجية لباومان على الربط الدقيق بين تحول الظاهرة المجتمعية "السائلة" والسلوك "السائل" والرغبات "السائلة" وبين الطريقة التي ينعكس فيها ذلك على عمل الأنساق الاجتماعية ومؤسساتها والتحديات الآجلة التي يفرضها عليها وهو ما يعنينا في هذه المقالة تحديدًا.

إن السياق المفاهيمي الذي يرتكز عليه طرح باومان إنما يتركز على الطريقة التي غيرت بها فلسفة "الاستهلاك" كل مناحي حياتنا، وهو هنا لا يقف عند حدود توصيف "المجتمع الاستهلاكي" بقدر ما ينظر في التغير الجذري الذي تحولت معه المشاعر الإنسانية والعلاقات الاجتماعية إلى سلع قابلة للاستهلاك والنمذجة في الأسواق بفعل تقانات الاتصال وتقليص الحدود، وكيف يغدو ذلك بدوره مؤثرًا على معاني الكثير من القيم والعمليات الاجتماعية المتصلة بالوقار والحُب والأخلاق المجتمعية والضوابط التي تحكم روابطنا الاجتماعية في إطار الأسرة والجيرة والمجتمع ككل، والأخطر من تحرير المعنى هو السيطرة عليه وإعادة تشكيله سلعيًا عبر تقنيات الانتاج المختلفة وعبر وسائل التسويق المتعددة وعبر الكم الهائل من الصور الذهنية التي يعاد غرسها وتركيبها حول كل قيمة على مدار الدقيقة فيما نتعرض إليه من محتوى إعلامي وتسويقي ومرئي حولنا وحيالنا. وصولًا إلى "الإنسان القلق" المتوجس من غده الذي يقرن غاياته بوسائله والمستعد للاشباعات الفورية والمؤقتة على حساب ما يمكن أن تحققه له القيمة الاجتماعية الراسخة من ثباتٍ وتكيفٍ وشعور بالرسوخ الاجتماعي.

في كتابهِ الحداثة السائلة يقول باومان: "إننا ننتقل في الوقت الراهن من عصر الجماعات المرجعية المحددة سلفًا إلى عصر المقارنة العالمية الكونية التي يستحيل فيها تحديد وجهة الأفعال الفردية التي تتشكل بنفسها، فهذه الوجهة ليست من المعطيات المعروفة مقدمًا، بل إنها تنزع إلى تغيرات عديدة كبيرة قبل أن تصل هذه الأفعال إلى نهايتها الوحيدة الأصيلة: نهاية حياة الفرد". وهنا فإن التعويل على المرجعية الاجتماعية لمجتمع بعينه في تحديد سلوكيات الأفراد وضبطهم اجتماعيًا وضبط وتيرة علاقاتهم وعملياتهم وفعلهم الاجتماعي أصبح أمرًا عصيًا في ظل تشكل المرجعيات العالمية التي تتدافع إليها عديد القيم وتحاول أن تملأها عديد التوجهات والأعراف والمفاهيم مستفيدة من آلة الإنتاج الكبرى، وهنا نتحدث عن آلة الانتاج وليس فقط الآلة الإعلامية، فالآلة الإعلامية قد تكون هي الوسيلة الماثلة لتصدير المعتقدات والقيم والتوجهات قبل عقود، إلا أن هذا التصدير أصبح اليوم متضمنًا في كل أشكال التبادل البشري من الأحداث السياسية إلى الأحداث الرياضية والثقافية والفنية، ومن وسائل الإعلام المرئية إلى الملابس والتقليعات والتضمينات والإشارات غير المباشرة في إعلانات المنتجات المستهلكة، ومن الساسة وقادة الرأي العام التقليديين إلى الرياضيين والفنانين ونشطاء التواصل الاجتماعي. تلك آلات وأدوات إنتاج مهولة أصبحت اليوم تحاول استبنات قيم "بلا وجهة" محمولة على كف الاشباعات المؤقتة وعلى كف ملامسة الرغبات اللحظية لكل من يتعرض إليها أو ينخرط في سياق التأثر بها.

إذن يبقى السؤال كيف يمكن للمجتمعات الإنسانية السير وسط كل ذلك، والرهان هو فيما نسميته بـ "إعادة استنبات القيم الاجتماعية"، وذلك عبر أدوات ووسائل الحاضر، وعبر خطاب يستدرك التحولات ويستطيع القبض على مصادر الفهم والتعاطي الأكثر فاعلية في السياق المجتمعي، نحن في حاجة إلى إدماج الأفراد في أكبر قدر ممكن من الشبكات الاجتماعية الواقعية التي تناقش فيها مسائل القيم ويعاد التفكير من خلالها في الطريقة المثلى لترسيخها وإعادة استنباتها، وفي حاجة إلى محتوى تواصلي "مضاد" يرتكز على القيمة الحضارية التي تشكلها القيم للأفراد والأسرة والمجتمع على حد سواء ويناقشها ربطًا بالعلم لمالآت فقدانها وما يمثله ذلك من تدهور حضاري للمجتمعات وتفكك مجتمعي وضغوط اقتصادية وصحية ومؤسساتية، ونحتاج أيضًا إلى مراجعة كبرى للتعليم بأنشطته المنهجية واللاصفية وتحديد قيم كبرى يتم التركيز عليها مرحليًا واستنباتها من خلال المفاهيم المدرسية وتشكيلها سلوكًا ووعيًا من خلال الأنشطة اللاصفية، وفي حاجة أيضًا إلى الأنشطة العامة المتصلة بجودة الحياة التي تدمج السكان في فعاليات رياضية وثقافية وحضرية تشكل معنى القيمة الاجتماعية والتآلف حولها وتحاول القفز على ما تمثله الاشباعات المؤقتة للوسائل التي تعزز الفردانية والانعزالية في سياق المجتمع ككل.

يقول باومان: "مثل العالم الذي ملؤه الإمكانات كمثل طاولة بوفيه اكتست بأطباق تُسيل اللعاب، ألوان عديدة وكبيرة من الطعام يصعب على أعظم الأكالين أن يأمل بأن يتذوقها جميعها. الأكالون مستهلكون، وأكثر التحديات إزعاجًا وإجهادًا للمستهلك تتمثل في الحاجة إلى تحديد الأولويات". وفي تقديرنا فإن الدور للمؤسسات الاجتماعية والثقافية اليوم يجب ألا يكون انسحابيًا أمام طوفان هائل من القيم المتدافعة والمنتجة. وإنما في صناعة الوعي المضاد وفي استنبات القيم المضمنة في خطابها وفي القدرة على الوصول إلى أكبر تشكيل ممكن من المجتمع. وكل ذلك لا يعني في حقيقته الانغلاق أو الانكفاء وإنما رد الذات الحضارية إلى كينونتها الحقيقية والحد من سيولتها وفقدانها لهويتها ومعناها ورسوخها في ظل "الحداثة السائلة".