استراتيجيات الاقتصاد الحيوي.. حوارٌ لم يكتمل

30 يناير 2024
30 يناير 2024

على مدى العقدين الماضيين، بدأت العديد من دول العالم بتطوير استراتيجيات شاملة للاقتصاد الحيوي، ظهر الاهتمام بهذا الفرع من الاقتصاد في خضم الزخم العالمي الكبير بالاقتصاد الأخضر ومن بعدها الأزرق، وتباينت مختلف المفاهيم المرتبطة بالأنشطة الاقتصادية المستمدة من المخرجات العلمية والبحثية والابتكارية ذات الصلة بتكنولوجيات علوم الأحياء، وعلى رأسها التكنولوجيا الحيوية، بجانب التقنيات المساندة لها مثل تكنولوجيا النانو، وتقنيات المعلومات، في سياق التقنيات المصاحبة للثورة الصناعية الرابعة، ولكن القراءة في أبرز الاستراتيجيات على مستوى العالم والتي تم نشرها خلال العقدين الماضيين تعكس صورة غير مكتملة لدور التكنولوجيات الحيوية في المواضيع الاستراتيجية الكبرى، وعلى وجه الخصوص، الاستجابة للحالات الاستثنائية كما حدث مع متطلبات تصنيع اللقاح خلال جائحة كوفيد-19، والدور الذي تسنده هذه الاستراتيجيات للأمن الغذائي على ضوء الصراع المرتقب مستقبلًا بشأن تحديد الأولوية بين إنتاج الغذاء وتصنيع الوقود الحيوي، فهل يكتمل الحوار الاستراتيجي لتعزيز التماسك بين أجندات السياسات، والمبادرات، والقطاعات الفاعلة في أولويات الاقتصاد الحيوي؟ تعالوا في البدء نلقي الضوء على مصطلحات «الاقتصاد الحيوي» أو«الاقتصاد القائم على الموارد الحيوية»، غالبا ما تستخدم هذه المصطلحات بالتبادل، وهي في المجمل تتمحور حول تحويل المعرفة بكافة أشكالها في تخصصات علوم الأحياء إلى منتجات وخدمات مستدامة، وفعالة بيئيًا وتنافسية في القطاعات الاقتصادية ذات الصلة، وركزت الاستراتيجيات على جميع استخدامات الكتلة الحيوية التي هي أساس جميع عمليات الابتكار والتصنيع في الاقتصاد الحيوي، بدءًا من قطاعات الإنتاج الأولية، مثل الزراعة والمراعي والغابات، إلى القطاعات الحديثة التي تستفيد من التكنولوجيا الحيوية، ويرتبط الاقتصاد الأخضر بعلاقة وثيقة بالاقتصاد الحيوي، ووفقًا لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، فإن «الاقتصاد الأخضر هو ذلك الاقتصاد الذي يؤدي إلى تحسين رفاهية الإنسان وتعزيز العدالة الاجتماعية، مع التقليل وبشكل كبير من المخاطر والندرة البيئية»، ويشترك كل من الاقتصاد الحيوي والأخضر في العديد من الخصائص، مثل كفاءة استخدام الموارد، والتقليل من انبعاث ثاني أكسيد الكربون، ولكنهما غير متطابقين تمامًا، فالاقتصاد الأخضر يستفيد من المنتجات الحيوية، ولكنه لا يعتمد على الاقتصاد الحيوي.

وتعود أولى التجارب العالمية في وضع استراتيجيات للاقتصاد الحيوي في عام 2009م، حيث نُشرت فيها استراتيجية منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لدول الاتحاد الأوروبي، وكانت بعنوان: «الاقتصاد الحيوي حتى عام 2030: وضع أجندة السياسات»، كانت هذه الوثيقة بمثابة النقطة الفاصلة لنشوء الاقتصاد الحيوي، وأعطت أهمية كبيرة لهذا الفرع من الاقتصاد، وكان ذلك حافزًا للتنمية المستدامة ذات الأبعاد البيئية المنسجمة مع الاستخدام الأمثل للموارد الحيوية، وبعدها بعامٍ واحد، وتحديدًا في منتصف عام 2010م، أصدرت وزارة التعليم والبحث العلمي الألمانية «الاستراتيجية الوطنية للاقتصاد الحيوي: طريقنا نحو الاستدامة»، في عام 2012 أعلن الاتحاد الأوروبي عن وثيقة السياسات: «لابتكار من أجل الاستدامة والنمو: اقتصاد حيوي لأوروبا»، وفي نفس العام نشرت الولايات المتحدة الأمريكية تقريرها الوطني «مخطط الاقتصاد الحيوي»، ومنذ عام 2015م وحتى الآن توالت الخطط والاستراتيجيات وأجندات السياسات لمختلف دول العالم للحاق بركب التجارب الدولية الرائدة للاقتصاد الحيوي، ولكن ما هي أهم الخصائص التي تجمع بين هذا الكم الهائل من الاستراتيجيات؟ وهل هي بالأساس تتماثل أم أنها تختلف من تجربة إلى أخرى؟ في معظم استراتيجيات الاقتصاد الحيوي نجد بأن التركيز الأكبر هو على قطاعات التكنولوجيا الحيوية، وتحديدًا قطاع التكنولوجيا الحيوية الحمراء التي تشتمل على التصنيع الابتكاري للأدوية والعقاقير، والمواد الطبية التشخيصية، واللقاحات التي اكتسبت زخمًا كبيرًا بعد جائحة كوفيد-19، وكذلك تركز استراتيجيات الاقتصاد الحيوي على التكنولوجيا الحيوية الخضراء المرتبطة بقطاعات الإنتاج الغذائي من النباتات المعدلة وراثيا، والحيوانات المستنسخة، وكذلك تُعنى هذه الاستراتيجيات بالمنتجات القائمة على ابتكارات التصنيع التحويلية للموارد المتجددة والتي تشمل صناعة البلاستيك الحيوي، والوقود الحيوي من بين منتجات أخرى كثيرة، وبالنسبة لمعظم الاستراتيجيات فإن الاقتصاد الحيوي يُنظر إليه كأداة لتحقيق التنمية المستدامة عبر تنشيط قطاعات التكنولوجيا الحيوية المدفوعة بالابتكار، سعيًا لتحقيق النمو الاقتصادي عبر المؤشرات الأساسية مثل رفع الناتج الإجمالي، وزيادة الصادرات، وخلق فرص العمل، ومن جهة أخرى تسعى استراتيجيات الاقتصاد الحيوي في التصدي للقضايا الكوكبية الكبرى مثل التقليل من الاعتماد على الوقود الأحفوري والاستعداد لمكافحة تغيير المناخ من خلال عمليات إنتاج أكثر كفاءة، وتقنيات عزل الكربون في المنتجات الحيوية، وتطوير التكنولوجيا الحيوية الغذائية، والابتكار في تحصين منظومات الأمن الغذائي، وفي بعض الحالات المحدودة جاء الهدف بشكل غير مباشر في تطويع ركائز الاقتصاد الحيوي لجلب المنافع الاجتماعية على القطاعات الاقتصادية المهمشة، والمناطق الريفية من خلال تمكينها لتوريد ومعالجة المواد الخام المتجددة ورفع مستوى معيشة القائمين على هذه الصناعات متدنية التكنولوجيا.

وهذا يقودونا للمنطلقات الاستراتيجية لنشوء هذا الاقتصاد، إذ تبرر معظم الاستراتيجيات المتعلقة بالاقتصاد الحيوي اهتمامها بهذا الفرع لكونه ضرورة تنموية عاجلة لمواكبة الثورات التكنولوجية المتسارعة، ومن أجل التقليل من التأثيرات السلبية للأنشطة الاقتصادية على حياة الإنسان وعلى البيئة، وهذا ما يجعل من الضروري رفع الاستثمار في البحث والتطوير في مجالات علوم الأحياء، والتخصصات المرتبطة بالموارد الحيوية والطبيعية، وبذلك فإن استراتيجيات الاقتصاد الحيوي في المجمل تتشابه؛ لأنها جميعها تقوم على ثلاثة محاور وهي أولًا الجينوم واللقاحات، وثانيًا الابتكار في الإنتاج الغذائي الزراعي والحيواني، وثالثًا التصنيع الحيوي ذو المردود الاجتماعي والاقتصادي المستدام، ولكن تبقى مسألة الأمن الغذائي التي لم تطرح بشكل كامل، وخصوصًا فيما يتعلق بتحديد خط التعادل بين دور التقنيات الحيوية في توفير الغذاء الكافي وإتاحة التنوع والوصول إليه في كل وقت، وفي أوقات الأزمات، وبين مسارات إنتاج الوقود الحيوي، فالاقتصاد الحيوي برغم كل فوائده هو يخلق الطلب الإضافي على الطاقة المتجددة وعلى المواد الأولية الخام، مثل استخدام الزراعية الأراضي والمدخلات الأخرى، مما قد يكون له تأثيرات متعددة على الأمن الغذائي.

علاوة على ذلك، فإن معظم الاستراتيجيات تهدف إلى تعزيز نقل المعرفة والابتكارات من المختبر إلى حيث يمكن للقطاعات الإنتاجية الاستفادة منها كمنتجات وخدمات، ولكن وفي كثير من الأحيان لا يمكن فصل هذه الجزئية الهامة عن التحديات التي تعترض جميع التخصصات التطبيقية الأخرى في العلوم والهندسة، فالفجوة بين القطاعات المنتجة للمعرفة والقطاعات التصنيعية لا تزال حاضرة، ولذلك فلا يتوقع واضعو السياسات أن يكون هناك عبور جزئي وانتقائي لهذه الفجوة في الفروع المتعلقة بالاقتصاد الحيوي دونًا عن العلوم الأخرى، ولذلك على هذه الاستراتيجيات وضع مسارات ابتكارية لتسريع عملية تحويل المخرجات البحثية والابتكارية إلى تقنيات ومنها إلى منتجات، مثل البحث عن شراكات مدعومة بتمويل المخاطر بين الأوساط الأكاديمية وقطاعات الأعمال، ومع الشركات المعنية بالتقنيات الحيوية، ويأتي دور القطاع الحكومي كمحور ذي أهمية متساوية في تعزيز البيئة القانونية والتنظيمية لدعم الاقتصاد الحيوي.

وبقراءة أبرز التجارب العالمية في وضع استراتيجيات الاقتصاد الحيوي تبرز الحاجة إلى ضمان تحقيق أقوى مشاركة بين أصحاب المصلحة، وتضمين المجتمع المدني، فالسمة الغالبة على هذه التجارب الحالية بأنها أشبه بالاستراتيجيات الفردية ذات المدى الواسع والطموح، والاستخدامات المتنافسة على الكتلة الحيوية قد تكون كذلك محل إرباك للجهود العالمية والإقليمية في التعامل مع ملف الأمن الغذائي، بالإضافة إلى متطلبات أهداف التنمية المستدامة التي تؤكد محورية وضع ثنائية «الإدارة المستدامة الموارد الطبيعية وتخفيف تغيير المناخ» في قلب الجهود التنموية والتي بدورها تخلق العديد من المقايضات، الأمر الذي يتطلب اتّباع نهج استراتيجي وشامل في إدارة ملف الاقتصاد الحيوي، وهذا ما بدأت فيه معظم الدول الرائدة في تنفيذ استراتيجيات الاقتصاد الحيوي، فنجد مثلًا دول الاتحاد الأوروبي التي أنشأت لجنة وطنية للاقتصاد الحيوي من أجل خلق حوار مفتوح حول البحث عن أفضل سبل تعزيز الاقتصاد الحيوي، وفي الولايات المتحدة الأمريكية تم إنشاء مرصد الاقتصاد الحيوي لتقييم التقدم في تحقيق ركائز الخطط الوطنية المرتبطة بقطاعات الاقتصاد الحيوي، مع التركيز على متابعة مستجدات البحث العلمي والابتكار التكنولوجي في المجال البيولوجي عمومًا، وفي تقنيات محددة ذات الأولوية مثل الجينوم والهندسة الوراثية، وتقنيات الحمض النووي، والجزيئات الحيوية، واستخدام الكائنات الحية الدقيقة في التصنيع، والإنزيمات الصناعية، والهندسة المباشرة للميكروبات، مع دراسة الأثر المحتمل لهذه التقنيات على المحيط الحيوي، وهذا ما يكسب الاقتصاد الحيوي خصوصية كبيرة، فلا تزال هناك العديد من الأسئلة المفتوحة التي تتطلب الكثير من العمل من أجل تعظيم الفرص الاستراتيجية الواعدة من توجيه التكنولوجيا الحيوية والتقنيات المصاحبة لها إلى القضايا التنموية.